المسرح ذلك الكهف المسحور، والمحاط بسياج من الجن كما اعتقده الأقدمون، ونصحوا بطرده لأنهم يرون أنه أرواح شريرة، وذلك في العصور المظلمة من التاريخ. فالمسرح ليس إلا بلورة سحرية، جمالية، نرى من خلالها عوالم وأزمنة مثيرة للخيال وصانعة للوجدان.

وقد قام عالم المسرح ولم يقعد احتفالا باليوم العالمي للمسرح. ولم تقتصر هذه الاحتفالات على بلاد العالم الخارجي، وشملت العالم العربي أيضاً باعتباره جزءاً لا يتجزأ من هذا المجال الحر الطليق الذي يُفترض أن يكون عليه!

يعد هذا العام الواحد والخمسين له، كما خصصته منظمة اليونسكو في يوم السابع والعشرين من شهر مارس من كل عام، منذ عام 1961. على ذلك جرى الاحتفال الأول في السابع والعشرين من مارس 1962، في باريس تزامناً مع افتتاح مسرح الأمم. واُتفق على تقليد سنـوي يتمثل بأن تكتب إحدى الشخصيات المسرحية البارزة في العالم، بتكليف من المعهد الدولي للمسرح، رسالةً دوليةً تترجم إلى أكثر من 20 لغة، وتعمم إلى جميع مسارح العالم، حيث تقرأ خلال الاحتفالات المقـامة في هذه المناسبة، وتنشر في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية. وكان الكاتب الفرنسي جان كوكتو أول شخصية اُختيرت لهذا الغرض في احتفال العام الأول بباريس. وتوالى على كتابتها، منذ ذلك العام خمسون شخصية مسرحـية من مختلف دول العالم. وفي هذا اليـوم من هذا العام أختيرت الشخصية المسرحية العـالمية الكاتب المسرحي "داريوفو" الحائز على جائزة نوبل للآداب، ليكتب رسالة اليوم العالمي للمسرح ويترجمها إلى العربية الدكتور يوسف عيدابي.

وقد شكلت هذه الرسالة لنا صدمة ثقافية شديدة، كونها تبدو في مجملها صرخة عالمية مدوية في العالم بأكمله، تنادي برفع كل الأيدي عن المسرح، مستنداً لما لاقاه المسرح - بصفة عامة - من سطوة رسمية - بحجة اقتصادية - وعقائدية بتهمة تشويه الواقع، متخذا تراتبا زمنياً منذ فجر المسرح حتى اليوم. فيقول: "اليوم يواجه الممثلون، والفرق المسرحية صعوبات كبيرة في توفير المسارح، وأماكن لعروض العامة والجمهور أيضا، وكل ذلك بسبب الأزمة الاقتصادية. لهذا السبب لم تعد الحكومات تكترث بمشاكل الرقابة على أولئك الأشخاص الذين يعبرون عن أنفسهم عن طريق السخرية والتهكم، طالما أنه لم يعد هناك من مكان للممثلين، ولا يوجد حتى جمهور نخاطبه"!

كما تتبَّع ما يصطدم به المسرح من مفكرين متطرفين في هذا الشأن، واعتبر "داريوفو" هاتين العقبتين تحطان من شأن المسرح وتنتزعان لسانه الحر الطليق، وكأنهما تصنعان الحفر والعثرات في طريقه عمداً مع سبق الإصرار، لتفادي لسعات لسانه اللاذع، والتي هي قدر المسرح المحتوم!

ومما زاد من الصدمة لنا في هذا الرسالة، هو أنها تنوه عن أزمة المسرح في العالم بأكمله، وليست أزمة المسرح في الوطن العربي! بالرغم من الصراخ الإعلامي العربي عن تدهـور المسـرح في بلادهم، وعلى سبيل المثال، يقول الممثل المسرحي الجزائري "كمال جايب" بمناسبة اليوم العالمي للمسرح: "إن المسرح الجزائري سجل تراجعاً كبيرا في غياب سياسة مسرحية محكمة، الكم موجود والكيف منعدم''. ومن وجهة نظره قال: "كل ذلك يرجع إلى المتطفلين الذين غزوا الساحة المسرحية الجزائرية مما أدى إلى إضعاف مستوى هذا الفن في بلادنا"، وفي تونس أصدرت وزارة الثقافة والتراث بيانا في هذا اليوم قالت فيه: "وتأتي هذه المناسبة بعد أكثر من سنتين على الثورة، بدأ فيهـا التونسيـون يتنسمون الحرية، نستشعر الآن بيقين راسخ أن بلادنا في أشدّ الحاجة إلى فن المسرح صانع الحياة وملهم الخيال". إلا أن المسرحي التونسي "عبدالغني بن طارة" تحدث عن العنف ووقوفه حجرة عثرة أمام الإبداع فقال: "العنف والمسرح لا يمكن أن يلتقيان في مكان واحد. فكيف للمبدع أن يكون مبدعاً وهو يعمل وسط أجواء من الخوف والرعب في ظل هذه الفوضى الكبيرة التي تثار ضدنا؟!... فالأمن مهم في حياة المبدع ليقول كلمته...والمسرح لن ينقرض ما دامت الحياة لأن المسـرح هو الحياة". وفي سورية تقول نضال الأشقر: "هذه الهالة الظلامية التي تلقي بظلالها على العالم العربي خطرة فعلاً، لا يمكننا مواجهتها، بل نحتاج إلى عشرات التحولات التي تخلّصنا من الديموقراطيات المزيّفة. هكذا تبدو الأشقر التي ارتبط اسمها بالمسرح اللبناني منذ بداياته الطليعية في الستينيات، متشائمة ومتخوّفة مما سيجلبه الغد. حيث إنه لن يجد الفنان العربي أمامه سوى الهجرة". ومما لا شك فيه أن هذ الهالة تخيم بظلالها على المسـرح العربي بأكمله، ولكن بتفاوت متباين حسب ثقافة وسياسة كل بلد على حدة، ولكن تظل أزمـة المسرح عربية، ومما أدهشنا أنها أضحت عالمـية ! لما أفصحت عنه رسالة " داريوفو" للمسرحيين جميعا في كل أنحاء العالم، بالرغم من تطلعنا للمسرح العالمي فلنتدارسه بين أيدينا كونه الأنموذج، إلا أن هذه الرسالة قد أطفأت ضوء المسرح في عيوننا، إذ إن المسرح هو من وجهة نظره يُطرَد بأشكال وبطرق متعددة من كل المجتمعات بالرغم من احتياج هذه المجتمعات للمسرح في خدمتها وتنويرها وتعليمها كما أنه يرى هذا اللفظ السياسي بحجة الاقتصاد والاجتماعي بحجة العقائد كان ممنهجا ومدروساً في العـالم بأكمله!

ولذا أصبح المسرح في يومنا هذا، كعصافير الزينة، نحتفظ بها ونزين بها منازلنا ونسمع تغريداتها، إلا أنها في نهاية الأمر حبيسة الأقفاص ننقلها من مكان إلى مكان كيفما شئنا! فأفقدت معنى الحياة، لأنها فقدت الحرية.

إلا أن "داريوفو" قد عاد وأضاء شمعة خافتة في آخر رسالته فيقول :"إن الحل الوحيد المتاح لنا، من أجل حل هذه المعضلة يكمن في الأمل بصد ذلك الطرد الجماعي الممنهج المنفذ ضدنا، وضد فئة الشباب، بشكل خاص، ممن يرغبون في تعلم الفنون المسرحية: تهجير جديد للكوميديين ولرجال المسرح سوف يـؤدي إلى خلق جيل جديد من الكوميديين، جيل سيكون قادرا بالتأكيد على أن يستخلص من هذا الضـغط فوائد تفوق الخيال لتقديم عروض مبتكرة".