من يقرأ مذكرات اللواء: محمد نجيب كبير الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة 23 يوليو 1952م في مصر، يدرك كما أدركت – متأخراً – أن مصر لو كانت محظوظة، لحكمها هذا الرجل، وليس "جمال عبدالناصر" الذي أحبه معظم العرب، وصفقوا له، من المحيط إلى الخليج، حتى بعد أخطائه المميتة، وهزائمه المنكرة، وفشله الذريع؟!

ولكن الدول كالأشخاص، تصاب بالأمراض، أو بالحظوظ العاثرة! وهذا ما حصل لمصر بعد ثورتها الأولى التي طنطن لها الإعلام طويلاً، ووصفها بالمجيدة؟! مع أنها مجموعة من الخيبات والعثرات، والأخطاء، والخطايا!

فلو كانت مصر التي أحببناها ولم نزل لأسباب موضوعية، محظوظة لبقى (نجيب) في سدة الحكم حتى عودة الجيش إلى ثكناته، والضباط الأشرار إلى بيوتهم بالتقاعد المبكر؟!

لو حصل ذلك، وهذا ما أراده (نجيب) لمصر في ذلك الحين، لوفرت كل المآسي التي مرت بها وعليها، طوال أكثر من نصف قرن من الثورة الفاشلة، بل هو انقلاب عسكري، استولى فيه على السلطة بعد طرد (نجيب) دكتاتور مريض بداء السكري والعظمة، فخرب البلاد، وأذل العباد، وتسبب في ضياع بقية فلسطين وسيناء كلها، وساعد في تسليم الجولان بطريقة غير مباشرة من طرف السوريين لليهود المعتدين؟!

لو بقي (نجيب) في الحكم حتى تحقيق ما ذكرناه، ومن ثم تقاعده، كما يقول في مذكراته المنشورة، لوفرت مصر دماء غزيرة، وأموالاً طائلة، سفكت الأولى، وبددت الثانية، ولما سرقت بيوت الناس وأراضيهم الزراعية وثرواتهم الشخصية التي كونوها بعرقهم أو ورثوها بنسبهم بحجة التأميم!

ويا ليت تلك القوانين الظالمة أدت إلى ازدهار مصر، إذاً لقلنا إن مصلحة المجموع مقدمة على مصلحة الفرد! ولكن هيهات! فقد ازداد الفقر والظلم، وظهر الفساد الإداري والأخلاقي، وحكمت المباحث والاستخبارات، وأصبح الزعيم (الأوحد) يدخن سيجارة وراء أخرى، في منزله المتواضع بمنشية البكري ويترك مصير بلده لفساد (نصر) ولسذاجة (المشير)! ومجموعته ولهوهم وعبثهم بالبلاد والعباد، وهو في برجه العاجي، يستمتع بالسلطة المطلقة، ويدير معاركه الغوغائية، في الراديو ثم التلفاز، والمعارك مستمرة ... يا جماهيرنا يا حرة! ويا جبل ما يهزك ريح! ومن المحيط الهادر... إلى الخليج الثائر.

لبيك عبدالناصر؟!

هذا الهراء والسخف الذي استمر حتى موت الفرعون الذي بكيناه عام 1970م، ثم مجيء الممثل الهزلي من بعده (السادات)! حتى قتله، تربع عاشق السلطة والنفوذ (حسني) أكثر من ثلاثين عاماً على صدر شعبه الصابر، ومعه المجموعة الفاسدة، وبطانته السيئة، تعبث في البلاد، والعباد، ما شاء لها العبث. وبعد ضياع مصر وأهلها، استيقظت الجماهير أخيراً، ولكن بعد خراب تام، بل وتخريب متعمد لكل شيء، طال حتى الضمائر والقيم والأخلاق والذمم .. إلخ.

وتقوم مصر أخيراً بثورتها الشعبية الشبيهة بالثورتين الفرنسية والروسية، مع الفارق في التوقيت والظروف والنتائج، ويقوم بعد مخاض عسير حكم منتخب، وحياة برلمانية ديموقراطية، كان يمكن أن تظهر في عام 1954م أي قبل الإطاحة بنجيب وفصل السودان، ووضع الرجل الطيب، الرئيس الراشد، في الإقامة الجبرية، سنين طويلة، يقتات الألم والندم، ويقاسم 50 قطة طعامه، ويجتر آلامه، حتى موته الأسيف! مأساة مصر، بدأت منذ زمن طويل نسبياً، فيا لها من حظوظ تصيب الأمم والشعوب، ولا تدرك فداحة الخسارة إلا بعد زمن قد يطول وقد يقصر.

من المسؤول أمام الله ثم التاريخ، عن هذه الأخطاء الفادحة، والآلام المبرحة، والضحايا التي ماتت، بسبب حماقات زعماء مرضى، والتدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي حوّل تلك الدول من دول يمكن أن تتقدم وتصبح دولاً ناجحة، إلى دول متأخرة وفاشلة؟!