أنا لا أكتب اليوم لمجرد بوح الخواطر أو سرد الذكريات، بقدر ما أكتب للقادم وللمستقبل. أكتب للتأمل حين سنتحول مع التقنية وثورة العصر المعلوماتية القادمة إلى مجرد أرقام (للإنسان الديجيتال)، ذلك الذي سيتحول إلى نمط حياة افتراضي بكل ما لهذا النمط القادم إلى حياة الإنسان من الإيجاب والسلب. هنا شوارد بعض الأمثلة: قضيت سواد الأمس لساعات على (google earth) سائحاً، وهابطاً من السماء للأرض إلى عناوين منازلي أيام البعثة الطويلة. ومن أتلانتا إلى شيكاغو، ومن بولدر إلى كولشستر الإنجليزية مشيت ذات شوارعي القديمة ووقفت بالصورة الفوتوجرافية الناصعة أمام العمائر والشقق والبيوت. ذهبت لجامعاتي الثلاث ووقفت حزيناً أمام مبنى الرابعة التي مكثت فيه لزمن قصير خاطف. شاهدت جدرانه من الطوب الأحمر: وتلك الأيام فقد بكيت في جوفها ما لم أبكه، ربما طوال الحياة.

كنت أنوي مطلع العام القادم أن أقضي شهراً كاملاً من الشتاء في عوالم تلك المدن والجامعات وأن أعود إلى منازلي وعناويني وشبابيك شقق الغربة: وحيداً مفرداً مثلما ابتدأت. ولكن: أمام الكافتيريا الواسعة الصاخبة في مبنى اتحاد طلاب جامعة كلورادو، وجدت على يسار الشاشة دعوة إلى الدخول لمجرد تشغيل الكاميرا البانورامية التي تنقل كل صخب هذا المقهى التاريخي في بث حي مباشر. هي، هي، نفسها بالضبط مثلما تركتها إلا من رتوش تغيير بسيطة لم تحجب شيئاً من المعالم الراسخة في أقصى قاع الذاكرة. في هذا المقهى نفسه كنت أقضي سويعات الظهيرة على طاولة في الزاوية، وكان لي مع هذه الطاولة ومع المقهى نفسه (طقوس) فريدة يعرفها كل (أهلي) من أبناء وطني الذين كانوا يدرسون معي في تلك الجامعة. كانت (مركازاً) يمر به العشرات من الأصدقاء والزملاء: هم المتحولون وأنا الثابت وعلى وقع هذه المشاهد (الحية) شربت كوباً من القهوة في منزلي الأبهاوي، وكم وقع على الكوب من الدموع: قد تكون نفسها هي (القهوة)، ولكن المكان والزمان بين (الكوبين) بلا رابط. هل خفت في داخلي رغبة العودة إلى هذه المعالم والعوالم سائحاً في الشتاء القادم؟ نعم لأن التقنية المدهشة لم تترك باباً ولا شباكاً ولا شارعاً إلا وتستطيع أن تأخذني إليه. وقفت طويلاً طويلاً أمام منزلي الأخير: تحت هذه النافذة بالضبط كتبت رسالة الدكتوراه بكل الحب والكراهية. بمزيج الأمل والألم. مشيت بالتقنية من منزلي إلى منازل (المرحومين) الدكتورين محمد الجربا وإبراهيم عسيري في الشارع المجاور: كيف انتهوا إلى المقبرة!