قبل شهر، كان حديث الإعلام والإعلاميين والمجالس والمنتديات هو عن أزمة الإسكان التي أثارها منتدى جدة الاقتصادي. ويكاد الموضوع يكون مطلبا شعبيا من القيادة الحكيمة، وكان البعض يعتقد أنها زوبعة في فنجان تنتهي بعد انتهاء المنتدى، لكن ظنهم خاب، لأنه لا يمكن أن نتصور أن قضية مثل هذه تغيب عن قيادتنا، ولم يكن الموضوع في دائرة الاتهام لوزير بعينه أو وزارة بعينها، وإنما مجموعة من المعوقات كانت هي وراء تفاقم القضية. وللحقيقة، إن المعوقات الرئيسية كانت هي توفر الأرض والبنية التحتية لها والتمويل للمواطنين، وهما الأساس في بروز أزمة الإسكان. وإذا لم تعالج هذه المعوقات الأساسية فلن يستطيع أي وزير أو وزارة، مهما كانت الكفاءة، أن يتجاوزا الأزمة أو أن يأتيا بحلول سحرية لمعالجتها.
فوزير الإسكان الدكتور شويش الضويحي ممن يشهد لهم بالأمانة والعلم والخلق والخبرة، ونوابه وزملاؤه في الوزارة ممن نثق في أمانتهم ونزاهتهم، إلا أن المعوقات الأساسية أكبر من قدراتهم في معالجة أزمة الإسكان ما لم تتوافر العناصر الأساسية لنجاح الحلول التي وضعت من قبلهم، وهي توفر الأراضي المطورة والتمويل للمواطنين الذين لا يملكون سكنا. وأحمد الله أن قيادتنا الحكيمة التي تحرص دائماً على تحقيق مطالب واحتياجات مواطنيها استشعرت أهمية الأزمة منذ سنوات ورصدت مئات المليارات لمعالجة أزمة الإسكان، إلا أن المعوقات الأساسية أخرت التنفيذ، وعلى رأسها توفر الأراضي المناسبة، وتوفير البنية التحتية لها، ثم إصدار الأنظمة والقوانين واللوائح المنظمة للتمويل العقاري التي صدرت مؤخراً.
إن هذه المعوقات الأساسية هي التي دفعت بالأزمة إلى التفاقم، لكن القيادة لم تمهل المعوقات وقتاً إضافيا لمعالجتها فتداخلت بتوجيه خادم الحرمين الشريفين الأسبوع الماضي بأن تتوقف وزارة الشؤون البلدية فوراً عن توزيع المنح البلدية وتُسلم جميع الأراضي الحكومية المعدة للسكن، بما فيها المخططات المعتمدة للمنح البلدية، إلى وزارة الاسكان لتوزيعها على المواطنين بحسب آلية الاستحقاق، حسب أمر خادم الحرمين الشريفين بإعطاء المواطنين أراضي سكنية مطورة وقروضاً للبناء عليها. كما وجه خادم الحرمين بمعالجة أزمة الأسمنت بإلزام المصانع بسرعة استيراد عشرة ملايين طن إضافية من الأسمنت، وإنشاء أربعة مصانع بطاقة اثني عشر مليون طن سنوياً، ودعم ذلك بثلاثة مليارات ريال لمدة ثلاثة أعوام.
قرارات حاسمة لمعالجة أزمة الإسكان.. وبالفعل بدأ تنفيذ القرارات، حيث عقد سمو الأمير منصور بن متعب وزير البلديات اجتماعا مع وزير الإسكان الدكتور شويش الضويحي، لوضع آليات تنفيذ القرار. وهذا ما يدفعني اليوم لأن أشعر بتفاؤل كبير بأن أزمة الإسكان ستعالج سريعاً، وأتوقع أنها ستختفي تدريجيا خلال السنوات العشر القادمة.
إن قرار سحب أراضي المنح من وزارة البلديات ليس هدفه سحب الثقة منها، وإنما تخفيف العبء الإداري والفني عنها، وتوجيه جميع عناصر معالجة أزمة الإسكان في وزارة واحدة وهي وزارة الإسكان.. الوزارة المعنية بالإسكان، وذلك لإزالة معوقات التداخل في المسؤوليات والصلاحيات، وتركيز هدف منح الأراضي للمواطنين لغرض الاستفادة منها في البناء لتوفير مساكن للمواطنين، وليس للمتاجرة في أراضي المنح ببيعها من المستفيد الأول وهو المواطن لتجار أراضي المنح والمضاربين بها. كما أن قرار تكليف وزارة المالية بتوفير الميزانيات الخاصة بتطوير الأراضي المخصصة للإسكان، وتحت مسؤولية التنفيذ لوزارة الإسكان، كان قراراً إيجابياً، وهو الأساس في معالجة الأراضي غير المؤهلة للبناء عليها لعدم توفر البنية التحتية، وهذا هو الحل الأمثل للاستفادة المثلى من إجمالي الأراضي الحكومية المتاحة.
وإذا جاز لي الاقتراح دعماً لهذه القرارات السامية لمعالجة أزمة الإسكان، فإنني أقترح أن تنقل صلاحيات تخطيط أراضي الإسكان ومنح حق إصدار رُخص البناء للمجمعات السكنية التابعة لوزارة الإسكان لوزارة الإسكان، وعدم ربطها ببيروقراطية التراخيص من الأمانات والبلديات. كما أقترح مع نقل هذه الصلاحيات والمسؤوليات لوزارة الإسكان أن ينقل جميع الموظفين والمهندسين القائمين على المنح في الأمانات والبلديات إلى وزارة الإسكان، لأن المسؤوليات الكبيرة على وزارة الإسكان تحتاج إلى كفاءات وخبرات كبيرة في هذا المجال. كما أقترح أن تتبنى وزارة الإسكان إنشاء شركة مساهمة حكومية بمشاركة القطاع الخاص.. شركات ومؤسسات المقاولات الصغيرة، لتتخصص في بناء المساكن العامة لذوي الدخل المحدود، التي ستقوم ببنائها وعلى حسابها وزارة الإسكان، ولا مانع من دعوة شركات مقاولات بناء عالمية للمساهمة في هذه الشركة للاستفادة من خبراتها وإمكاناتها، حيث إن أحد أهم المعوقات هو عدم توفر شركات مقاولات متخصصة في الإسكان بالحجم الذي يستطيع القيام بمشاريع الإسكان العملاقة. كما أقترح أن تتبنى وزارة المالية فكرة شراء الأراضي البيضاء داخل وحول المدن من ملاكها، وهي مساحات بالكيلومترات، وتوجيهها لوزارة الإسكان لبناء المساكن الموجهة للبيع للمواطنين، حيث تتوافر بها أو بجوارها جميع الاحتياجات الأساسية من كهرباء وطرق ومياه وغيرها.
إن فكرة انتزاع ملكية الأراضي الخاصة للمصلحة العامة فكرة مطبقة في المدينتين المقدستين، مكة المكرمة والمدينة المنورة والمدن الكبرى الأساسية، وإن المصلحة العامة فوق كل المصالح الخاصة.. وهذا يدفعني لتأييد فكرة تطوير العشوائيات التي تستوعب بناء مجمعات سكنية لائقة للملايين من المواطنين، في الوقت الذي يعيش فيها الآن عدد محدود من المواطنين، وفي مساكن غير لائقة من جميع النواحي الصحية والبيئية والاجتماعية. وأتمنى على أولئك المعارضين للفكرة أن ينظروا إلى القضية من جميع أبعادها الأمنية والبيئية والاجتماعية والصحية، شريطة تعويض ملاكها تعويضاً عادلاً ومقنعاً.
وأخيراً؛ كنت أتمنى على وسائل الإعلام بجميع أنواعها، وعلى زملائي الإعلاميين ـ وأنا أحدهم ـ أن نعطي الإضاءة المناسبة والإيجابية لقرار خادم الحرمين الشريفين الأخير بتحويل الأراضي من وزارة البلديات إلى وزارة الإسكان، وتأمين البنية التحتية، وبناء أربعة مصانع للأسمنت، وتقديم القروض لبناء المساكن لكل من يملك أرضا وتقديم السكن لكل من لا يملك سكنا.. هذه القرارات فعلاً تستحق الإشادة الإعلامية بنفس المساحة التي مُنحت لنا ونحن نناقش أزمة الإسكان بصفتها قضية عامة.