هنالك نوعان من الشعوب: النوع الأول يسعى للاستفادة من قدراته ويعمل على دراسة احتياجاته لتطوير ذاته والدفاع عن مصالحه ليتفوق على أقرانه، والنوع الثاني يستبيح مقوماته ويتغيب عن حقوقه ويخسر مكانته لتتفاقم أخطاؤه وينزلق بها نحو الهاوية. شعوب النوع الأول أيقنت بذكائها أن خلايا التفكير وبيوت الخبرة (Think Tanks) تمنحها القدرة على تغليب العقل في قراراتها وتسخير الخبراء في تنمية قدراتها.

منذ معاهدة "سايكس بيكو"، المبرمة في مايو 1916 بين فرنسا وبريطانيا بمصادقة الإمبراطورية الروسية، ما زال العالم العربي لتاريخ اليوم يعيش أحلام العودة والاستقلال والديموقراطية، وما زالت معظم الدول العربية تئن تحت وطأة الدروس القاسية لهفواتها القاتلة غير المدروسة وخطواتها العفوية المميتة التي تخطوها نحو الهاوية. وكما تغيب (خبراء) السياسة طوعاً عن "سايكس بيكو"، يعيش اليوم (علماء) الاقتصاد و(عظماء) الاستراتيجيات عنوةً وقسراً في غيبوبة دائمة عن معظم الاتفاقات والمعاهدات والمخططات العالمية التي تحاك ضد شعوبنا، لينزلق عالمنا العربي للمرة العاشرة بعد المئة إلى قاع الهاوية في مسيرته الأشد وعورةً على مستقبلنا من ظلام الجهل والفقر والبطالة.

تصوروا لو قام الرئيس العراقي "صدام حسين" بدراسة نتائج غزوه للكويت قبل اتخاذ قراره المشؤوم، ولو لجأ الزعيم الليبي "معمر القذافي" إلى دراسة مغزى انتفاضة مواطنيه قبل اتهامه لهم بالهلوسة، ولو احتكم الرئيس السوري "بشار الأسد" لعقل خبرائه قبل ترويع أبناء جلدته. وتصوروا لو قامت الجامعة العربية بدراسة نتائج (الربيع) العربي على شعوبها، ولو لجأت دول منطقة التجارة الحرة العربية (الكبرى) إلى دراسة النتائج الإيجابية للتبادل التجاري على شعوب أعضائها، ولو بادرت الدول الخليجية في دراسة سبل تطوير صناعة معدات التحلية لتأمين احتياجاتها من المياه واستغلت مواردها لتحصين مستقبلها الغذائي والتنموي.

لتحقيق أهداف قراراتها المصيرية وتحييد عشوائياتها، لجأت الدول الذكية إلى خبرائها وقامت بإنشاء هذه الخلايا والبيوت، لتعتمد على نتائج دراساتها وتقاريرها في تطوير سياساتها الداخلية وتفعيل سياساتها الخارجية. اليوم ارتفع عدد بيوت الخبرة وخلايا التفكير إلى أكثر من 5000 مؤسسة موزعة على 168 دولة في مختلف بقاع المعمورة، منها 242 في أمريكا و116 في بريطانيا و62 في أستراليا و33 في كندا و28 في إسرائيل و23 في كوريا الجنوبية و22 في الصين و10 في غانا و9 في الأرجنتين و8 في إيران و7 في بنجلاديش و5 في البرازيل. وتأسس أولها منتصف عام 1831 في بريطانيا تحت اسم "مركز الدراسات الأمنية والدفاعية"، كما تأسس أكبرها في أمريكا تحت اسم "معهد بروكينكز".

نتيجة افتقار عالمنا العربي لخلايا التفكير وبيوت الخبرة التي لا يزيد عددها على 13 مؤسسة، تستمر شعوبنا في الانزلاق نحو الهاوية بخطوات متسارعة. وبسبب عدم معرفتنا لنتائج مجريات الأحداث العالمية التي باتت تتسارع وتيرتها لتؤثر سلباً في ربوع أوطاننا، تستمر معظم دولنا العربية في التراجع أو التهور في سلوك طريقها المظلم. نحن في أمس الحاجة لبيوت الخبرة وخلايا التفكير لدراسة مشكلة البطالة المعقدة التي تواجه عالمنا العربي، والتي أصبحت نسبتها تشكل 20% مقابل 6% عالمياً، ليصل عدد العاطلين عن العمل إلى 25 مليون عربي وليرتفع في عام 2025 إلى 80 مليون عاطل، مما يتطلب ضخ نحو 70 مليار دولار لرفع معدلات النمو الاقتصادي في الدول العربية. ونحن في أمس الحاجة لدراسة العقبات الأساسية التي تعترض سبيل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في عالمنا العربي، لمعالجة انحراف أسواقنا وابتعادها عن شروط ومواصفات النموذج المثالي للمنافسة والتخصص وثبات الأسعار ورفع الكفاءة الإنتاجية في قطاعي الصناعة والتجارة والزراعة والخدمات. كما نحن في أمس الحاجة إلى دراسة أسباب ارتفاع نسبة الأمية في وطننا العربي إلى 27% من إجمالي السكان في عام 2013، لتعادل بذلك ضعف نسبة المتوسّط العالمي وترتفع بين الإناث إلى 80%. بل نحن في أمس الحاجة لدراسة تقرير التنمية البشرية والتعرف على أسباب التباين الكبير الذي تشهده الدول العربية في معدلات الفقر المتعددة الأبعاد الذي لا تزيد نسبته في الإمارات على 1%، بينما ترتفع في الصومال إلى 81%، لذا جاءت الإمارات في المرتبة الأولى عربياً في التنمية البشرية لعام 2012، واحتلت المرتبة 32 عالمياً من بين 169 دولة، وتلتها قطر في المرتبة 38، ثم البحرين في المرتبة 39 والكويت في المرتبة 47 والسعودية في المرتبة 55، بينما جاءت مصر في المرتبة 101 وسوريا في المرتبة 111 والسودان في المرتبة 154. وعلينا دراسة ومعرفة كيف حافظت النرويج على مرتبتها الأولى في التنمية البشرية عالميا، وكيف حققت أستراليا المرتبة الثانية، ونيوزيلندا المرتبة الثالثة، وأمريكا المرتبة الرابعة، وأيرلندا المرتبة الخامسة. بل علينا دراسة أسباب تراجع الدول العربية في مؤشر الشفافية العالمي لمكافحة الفساد في عام 2012، حيث جاءت قطر والإمارات في المرتبة 27 عالميا والبحرين في المرتبة 53 والأردن في المرتبة 58 وسلطنة عمان في المرتبة 61 والسعودية والكويت في المرتبة 66، بينما تراجعت تونس إلى المرتبة 75 والمغرب إلى المرتبة 88 واختلت الجزائر المرتبة 105 وليبيا المرتبة 160 والعراق المرتبة 169 عالمياً.

الدول العربية في حاجة ماسة إلى بيوت الخبرة وخلايا التفكير لدراسة قضاياها الملحة ومعالجة مصالحها الحيوية والابتعاد عن الانزلاق نحو الهاوية في مسيراتها التنموية.