نقول حين لا يعجبنا الحديث: "مجنون يحكي وعاقل يسمع"، وحين نصدم بمنطق من لا نتوقع أن لديه منطقا نقول: "خذوا الحكمة من أفواه المجانين"، وحين تعيينا الحيلة ولا نستطيع أن نفعل شيئا للتغير نقول: "لا تتعب نفسك إنه عالم مجنون.. مجنون"! من منا في طفولته لم تمر عليه خبرة مع ما يسمى "مجنون الحي أو القرية"، إن لم يكن من خلال الواقع يكون من خلال القصص والروايات، منها من تحدث عن عبقريته، ومنها من تحدث عن جنونه وهذيانه، ومنها عن بؤسه وشقائه، ومنها عن عشقه وهيامه، ومنها عن خبثه وإجرامه، المهم أنه في غالبيتها تكمن العبر لمن يعتبر، وحين كبرنا وبالتحديد في هذه الأيام، نجد أنه ظهر علينا نوع جديد من مجانين العالم الافتراضي، والكثير منهم أصبحوا يعدّون من مشاهير قنوات التواصل الاجتماعي، وطبعا مجانين الإعلام، شخصيات تخرج إلينا بأفكار غريبة عجيبة، بعضهم يغطيها بثوب الثقافة، وبعضهم يغطيها بثوب الدين والشرع، والبعض يمتشق أسهم "كيوبد" ويتخفى بظلال "أدونيس" أو قناع "عشتروت" ومن "مونت ألومبيس" أعلن افتتاح موسم الصيد، والبعض الآخر ـ وهو برأيي الصادق بينهم ـ يعري أفعاله أو أقواله ليصدمنا، المهم أننا لا نستيقظ ولا نعتبر، قد نغضب، قد نسخر، قد نثير بعضا من الغبار في جولات حوارية ساخنة، ولكن دائما.. دائما ما نرجع للمربع الأول لنتلقى الضربة التالية!.

من هو "مجنون قرية" عصرنا هذا؟ إنه من يعيش في قلب العاصفة، بل هو عين العاصفة، الكل يراقب، ينتظر، يتتبع خطواته.. يتلقف أقواله كغيث من المطر، لا يهم مظهره، لا يهم إن كان بلا كيان، يظهر ويختفي كالشبح، لا يهم... يكفي أن نعلم بأننا نكرهه لأنه يتحدانا، ونحبه لأنه يحرك الفكر فينا، نكرهه لأن لديه الشجاعة ليواجه، ونحبه لأنه يدفعنا لنقلده، نكرهه لأنه يعكس ضعفنا، ونحبه لأنه يوحدنا ضده أو معه.. إنه نبض التناقضات في شريان مجتمعـاتنا، بكلمة... بعبارة... بظهور عابر وسريع ينفضنا نفضا، فتكون ردة الفعل إما "انجلاط" يضرب الضمائر والقلوب فتتوقف إن لم تمت تماما، وإما انسعار وتحرك سريع قد يُفعل من خلالهما العقل وقد لا يُفعل! وحين تخرج أصوات لتنبهنا ماذا تكون ردة فعـلنا؟ نطاردها إلى خارج أسـوار المدينة تمـاما كما يـطارد "مجنون القرية" من أطفالها!.

أشعر أننا سنستيقظ يوما لنجد أنفسنا كأبطال القصة التالية: كان هناك قرية معظم أهلها يعدّ من البسطاء يعيشون بقوت يومهم، ومثل معظم القرى كان لهم شخص يعتبره الجميع أحمق، والذي كان محط سخرية الكبار وملاحقة الصغار، كلما قابله أحدهم يضع أمامه قرشا لامعا وورقة بنكنوت مهترئة ويطلب منه أن يختار، وكالعادة كان يختار القرش فيعطى القرش وسط الضحكات والقهقهة ممن حوله، وعلى الرغم من فقر القرية كان هذا المشهد يتكرر عدة مرات في اليوم، ولعلهم على فقرهم كانوا يبحثون عمن يذكرهم بأن هنالك من هو أقل حظا منهم، وبالطبع كان بعض النساء والرجال في القرية ممن كان يرفض تلك التصرفات ويتصدق على المسكين ببعض من بقايا الطعام والملابس القديمة، بل إنهم قدموا له كوخا على أطراف القرية للعيش فيها.

وفي يوم من الأيام ظهر مجنون القرية بملابس جديدة فخمة أذهلت الجميع، واستغرب أهل القرية وأخذ الجميع يهمس في نفسه: "من أين له هذا"؟ خاصة وأنه لم يكن في القرية سوى متجر لبيع الملابس المستعملة، اعتقد الجميع بأنه سرقها من مكان ليس ببعيد عنهم، فسأله أحدهم: "من أين لك هذا"؟ فأجاب الرجل بأنه اشتراها، بل إنه أشار إلى المنزل الفخم الذي كان يبنى على رأس التلة، وأخبرهم بأنه له، وحين سئل من أين حصل على المال أجابهم بأنه من القروش التي كانوا يرمونها إليه ثمنا لسخريتهم وضحكهم، وأضاف أنه كان يدخر ماله لأنه كان هنالك من يعطيه الأكل والملابس والمأوى، وبالتالي لم يكن بحاجة أن يصرف قرشا واحدا، وأنهى إجابته قائلا: "قد أكون أحمق قريتكم، ولكنني لم أنخدع بل خدعت"! فسألوه: "ولكن إن لم تكن أحمق لماذا لم تكن تأخذ البنكنوت بدلا من القروش"؟ فأجابهم: "لو أنني أخذت الأكثر لتوقفتم عن الضحك وعن إعطائي المال ولبحثتم عن تسلية أخرى بدلا عني، والآن أنا أغنى شخص في القرية وأمتلك كل المال الذي سيعيشني في راحة للبقية الباقية من حياتي، فأنا لم أصرف أموالي على التسلية ممن هم أقل مني، وانظروا أين أصبحت، أما أنتم فأجيبوني: ماذا لديكم الآن؟ من هو الأحمق أنا أم أنتم"؟.

ما أريده أن يصل هنا هو أننا من أجل تسليتنا، من أجل أن نستعرض عضلاتنا الفكرية على بعضنا البعض، قد نكون نحن أداة التسلية لجهة ثانية أو ثالثة، وبدلا من أن نشغل العقل نغذي ونخدم المشاعر، فيتسلل إلينا من يستخدمنا لتقدمه، لمجده، لبناء ثروته، ونستيقظ يوما لنجد أننا لا نمتلك شيئا سوى الهواء الذي اقتحم أفواهنا المفتوحة من هول الصدمة!.