قدَّم تاريخ البشرية نماذج تعيسة من الحمقى والمغفلين والجهلاء، لكنه كان كريماً جداً حين أتحفنا بشخصيات فريدة من نوعها مثل أبي جهل المغرِّد، وكل الدلائل تشير إلى أن شخصيته الافتراضية منبثقة من عصر التغريد (الجوراسي)، وكأننا في هذا العصر نفتقد لإطلالته البهية، ونتوق لظهوره الفذ، ليضيف إلى عقدنا عقداً ربما لم نسمع بها ولم نرها من قبل!

يقول العلماء إن التاريخ يسير باتجاه واحد، ينخفض منحناه ويرتفع فتستمر الحياة، إلا أن التاريخ حين قدّم أبا جهل مرتين، كان في المرة الأولى كوميدياً، وفي المرة الثانية هزليا.

إن أبا جهل المغرِّد أصر أن يسير خارج نطاق القوانين ونظريات العلم كلها حين أراد للتاريخ أن يدور حوله بطريقة حلزونية، لينتشر الدمار أخيراً! ورغم أنه من دهاقنة الجهل، إلا أنه - ولا حسد - قد دخل التاريخ من بابه الخلفي بعد أن غرَّد ولم يعلم الأفيال كيف تغرِّد.. مهما حاولت امتلاك أحلام العصافير!

قد يكون هذا الـ(أبو جهل) طيفاً عابراً، أو ربما شبحاً، لكنه موجود كأفكار وتطلعات في فضاء الواقع الافتراضي، وبالتالي هو ليس ضرباً من الخيال، لأنه عبارة عن (دماغ) صلْدٍ لا يُري الناس إلا ما يرى، ولنا هنا أن نتساءل: ما الذي جاء بأبي جهل؟ هل أخطأ التاريخ ولفظه على ضفاف العصر الحديث، أم جاء برغبته ليرصد لنا واقعنا ويقدم حلولاً سحرية لم تخطر على ذي لب؟

الجهل والإنسان متلازمان، وهو موجود فينا ما بقي حماسنا للتعلم والمعرفة مستيقظاً لأجل طرد الجهل، لأن الجهل ليس مصيبة فقط بل هو أكبر مصيبة واجهت البشرية، فجعلت من الإنسان عدواً لما يجهل.

وبالعقل يستطيع الإنسان الانتصار على الجهل الذي لم يعد بسيطاً ومركباً كما كان سابقاً، بل أصبح - مع توافر قنوات الإعلام والاتصال - جهلاً مع سبق الإصرار والترصد!

لا يمكن أن يقال عن حيوان أو طائر - مثلاً - إنه جاهل، فأقصى طاقته تبقى في إطار معرفته الغريزية التي تضمن له أن يعيش، أن يقتات على الأضعف منه ويحمي حدوده وصغاره.

ولن يتجاوز هذه المعرفة الغريزية - وإن أضاف إليها خبرات جديدة - لأن كل ذلك غير جدير أن يوصله إلى درجة المعرفة الإنسانية التي ينتجها العقل، وهي متجاوزة للمعرفة في حدودها الغرائزية، والتي جعلت من صاحب المعرفة القاصرة، أو المبتسرة، وجهاً آخر لمن لا عقل له.

في كثير من تعابيرنا نتحدث عن العالم وكأننا خارجه، ونتحدث عن ذواتنا وكأننا نسيج خاص لا يمتُّ للعرق البشري بأية صلة، على الرغم من أن حقيقتنا التي لا تقبل الشك أننا جزء أصيل من هذا العالم، يفترض أن نشترك في بنائه مع أبناء جنسنا البشري شئنا أم أبينا، لكن الأمر الواقع هو أن فئة غاب عنها صوت العقل، ونما فيها صوت الجهل، تريد أن تعيدنا إلى بيتنا الأثير: "ونجهل فوق جهل الجاهلينا"!

باختصار: نحن نعيش اليوم في عالم غيرنا، وإن كنا قد أسهمنا سابقاً في حضارته كباقي الأمم، إلا أننا ابتعدنا منذ اللحظة التي ارتضينا فيها أن يؤرخ تاريخنا الحالي بنقطة عصر الانحطاط.

نستهلك منتجاتهم، ونستجمُّ في منتجعاتهم، وأحياناً نلجأ إليهم حين تضيق بنا ديارنا لأي سبب، ومع الأسف، أصبح الغرب اليوم - بكل سيئاته الاستعمارية - أفضل من جنات موعودة، فلنبحث عن مكان آخر على المريخ، قبل أن يعود أبو جهل لينقلنا إلى عصور أخرى، لا أعرف لها بالضبط تاريخاً، يقتل فيها الإنسان أخاه الإنسان ويسلخ جلده بدم بارد.

يقول صلاح عبدالصبور:

وكأني نهرٌ،

يهتفُ بالمجرى:

أرجعني للقمم البيضاءْ

حتى لا يشربني..

الحمقى والجُهلاْء.