يذكر الكثير من المنظرين أن الأديب هو ذاكرة التاريخ، ونحن نقول إنه ليس ذاكرة التاريخ بل إنه سفير التاريخ عبر زمن آبد لا ينقطع، فهو ينثر التاريخ عبر ذرات الهواء في كل الأنحاء، عبر الأزمنة والأمكنة، ما دامت الأمم؛ ولهذا كانت عظمة الأدباء والمبدعين. فهل يعطيهم التاريخ حقهم لما بذلوه في حمل أجنحة الوعي السرمدي، أم أنه يحولهم إلى ذاكرة التاريخ كما يدعي البعض؟
في ندوة عن نجيب محفوظ بمناسبة ذكرى حصوله على جائزة نوبل؛ حيث دعيت ضمن ضيوف الشرف لهذه الأمسية، وكان لي الشرف بالحضور مع عدد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة من النقاد والروائيين ذوي القامات في عالم الفكر والأدب؛ إلا أن ما لفت نظري وأحزنني هو تضاؤل الحضور في أمسية تاريخية عن رجل من رجال نوبل، ولرجل عربي وضع الرواية العربية على قمة التاج العالمي مثله مثل زولا، وبلزاك، وماركيز، وغيرهم ممن انحنت لهم هامات الفكر والمفكرين العالميين، حين صدح المنادي من فوق منبر جائزة نوبل في أرض السويد ليعلن فوز الكاتب العربي واعتلائه صهوة الجواد الفكري العالمي.
لم نجد إلا حضورا باهتا وحاضرين من العامة الذين يتلهفون لمعلومة قد يجدونها وقد لا تروي ظمأهم، بالرغم من أن هذه الأمسية أقيمت في دار الأوبرا المصرية وعلى أرض هذا الأديب الفذ!
فلماذا نعامل قممنا بهذا الشكل؟ ولماذا نهمش تاريخهم؟ ولماذا نترك كنوزنا الثقافية والعلمية تصدأ أسماؤهم فلا تبرق إلا في سماء الغرب إن كتب لهم ذلك؟ ثم إن هناك تساؤلا ملحا وهو: ماذا لو لم يحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل ويبرق سناه في سماء الدول الغربية؟ فهل سيكون نجيب محفوظ بهذا البريق العالمي؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي وهي الأقرب إلى الصواب فإن هذه السلبية تقع على أكتافنا نحن، وعلى مؤسساتنا التي لا تعترف بالإبداع وبالمبدعين وتضعهم في آخر الصف إذا كان هناك صف يذكر!
يقول أحد المقربين من نجيب محفوظ في مشوار حياته: كنت أتضرع للناشرين لكي ينشروا رواية لنجيب محفوظ وأرغبهم بأننا سننشر لهم إعلانات داخل الرواية، وإذا حالفنا الحظ ونشرنا رواية لم تتعد نسخها 3000 نسخة تباع على مدار أربع سنوات، ولم تكن تشفع لنا أفلام السينما المأخوذة عن رواياته حينها في توزيع رواياته. ثم إنه قد أقصي من الكتابة في جريدة الأهرام وكذلك في بعض الدول العربية لأنه قد وقع مع توفيق الحكيم ومجموعة كتاب مصريين على عدم قبول حالة اللاسلم واللاحرب، وكان يعامل من الناشرين بضيق صدر يقابله هو برحابة صدره وابتسامته الدائمة. هذا هو حال المبدعين في بلادنا وها هو اليوم نجم في سماء العالم الذي يقدر قيمة المبدع وعطاءاته التي يتفاني من أجلها دون مقابل!
وفي كلمات مقتضبة تعرضها الشاشة لنجيب محفوظ في عيد ميلاده الثالث والتسعين يوجه رسالة للعالم ولأميركا على وجه الخصوص فيقول: "أوجه كلمة لأميركا بأن الطريق للعالم هو العدل وليس الحرب".. ثم يسأله أحد الصحفيين فيقول: قلت في عيد ميلادك التسعين: عشنا وشفنا العجب، فما ترى الآن؟ فيبادره في خفة ظل متناهية بقوله: "عشت ولم أعد أشوف العجب".. وهي طرفة تضمر أن هذا العصر لم يعد به ما يعجب ولم يعد به ما يسر!
وحين يسأله صحفي آخر عن: ماذا يفعل إذا كان بمفرده؟ فيجيب: "أغني أغاني الطفولة"! هذا الأديب الكبير عندما يشير إلى أغاني الطفولة فإنما يشير إلى عالم البراءة والطهر البريء من دنس العصر المضطرب! ثم يقول: "مصر تعاني وربنا معاها".
هذه هي الكلمات الأخيرة في آخر لقاءاته وكأنه يستشرف المستقبل كباقي المبدعين الملهمين الذين يقرؤون ما هو آت عن طريق الإلهام الحر! فلم يكن نجيب محفوظ إلا مزيجا متفردا بخصوصيته، هو ذلك المزيج بين ماركيز وطه حسين وبلزاك وزولا.
فماركيز ينحت شخوصه من الخارج إلى الداخل بينما محفوظ ينحت شخوصه من الداخل إلى الخارج، متماسا مع زولا في تحليل شخوصه من الداخل، وينحت محفوظ شخوصه نحتا دقيقا متناهيا في الدقة والتحليل، بينما ينحت طه حسين الأمكنة أكثر من نحت الشخوص، وهذا يرجع إلى طريقة اللمس عند كل منهم لشخوصه، ونعتقد أن لمس طه حسين للأمكنة أكثر دقة من الشخوص؛ وهو ما يرجع إلى طريقة اللمس عند الأخير. كما أن الزمن لدى ماركيز وثاباً ينطلق إلى عالم الواقعية السحرية التي تجنح إلى الخيال والأساطير، بينما نجد أن الزمن لدى محفوظ تراكمي قريب الشبه بالزمن لدى تشيكوف، وذلك لأن محفوظ يمعن في دقة النحت والتدقيق عبر ما يسمى بالتشكيل في الفراغ، فيحكم محفوظ قبضته على الزمن ليكن مطواعا بين أنامله يقود صهوته كيف يشاء، فتفوق الأخير رغم عبقرية كل منهم في عالم الرواية. كما أن مركز السلطة لديه هو التابوه الذي يجسده ثم يكسره في تمرد منه، ليس على التابوه في حد ذاته وإنما لمدلوله كقيد سلطوي لا يعترف بوجوده.
هذا هو الأديب الكبير نجيب محفوظ في أمسية تخليد ذكراه، التي لم يحضرها سوى عدد بسيط من العامة ولا وجود للمثقفين أو النخبة!