كسا محمد زايد قصيدته مبكراً ثوب القيمة الإنسانية والحضارية، مما حقق لها الاندفاع المستقبلي والانتباهة المؤثرة، وضراوة القلق والتمظهرات المغايرة ومضاهات العصر، فهو يستنطق كل ما حوله ويتقاطع معه في محاولة لاستحضار هاجسه وأفكاره المرمزة والقصدية الصارخة والمتوترة، والمكتظة بالدلالات والمعاني الجدلية المضمرة، كما في "دوامة التعب"، وهذه من بواكيره الأولى: هل تختفين وأختفي؟ هل تذهبين مع الرياح كغيمة ذهبت ولم تتوقفِ؟ هل يسكب الشعراء في عينيك أحرفهم؟ وتسكت أحرفي! هكذا كان زايد يمهد لأرضيته الشعرية، ليعبر عن فلسفته ومتنه الصلب وحلميته المناهضة للموت والهلاك والانكسار، بل ترصد في شعره كما يقول الدكتور محمد الشنطي نمط البناء السوريالي المشهدي الذي يعنى ببناء الصورة التعبيرية، حيث "يجمع بين اللوحة والمشهد والغناء"، وتلمس ذلك في قصيدة (أبجدية التكوين) والتي توحي بالتخلق والتشكل والتكون، حيث تكمن المفارقة بين الصياغة اللغوية والمدلول المعنوي والشكل التناظري للقصيدة، ولكنه لا يستسلم للصفات المألوفة في معجم الشعر العربي القديم، بل يأتي بصفات مدهشة للشاعر، حيث يعمد إلى إبرازه كأنموذج فذ وكائن أثيري، ويخلع عليه صفات الطبيعة الكونية في نقائها: "مثل الصباح محجل ومغرر-وله من الشفق المدمى مئزر. وكأنه نهر تشكل فجأة- فأضاء من دمه المثرثر أنهر. عيناه من وهج النبوة تصطلي- وبكل معجزة تراه يصور. هو ألف شيء شكلت في واحد - وهو الذي يأتي ولا يتكرر".
بوح ممتع ومغامرات صياغية شاهقة، ومنسجمة مع دلالاتها الاستشرافية وذروة توهجها، واختلاجاتها الطقسية المفعمة بالتنامي الجمالي، والإسقاطات الكثيفة والوصف التخييلي الإيحائي: "ستغلف المأساة أعينهم على أرض يباب، يزرعون الشمس قافلة لكي يتشكل اللون الترابي الجديد، ينشق وجه الأرض عن وجه جديد".
تتحرك القصيدة بين يدي زايد حين تنحت "تشعيرها" الطبيعي وحساسيتها الرهيفة، في بنية معمارية متماسكة، حيث تأخذ مداها الكلي ومناخها السيميائي والحس التشكيلي، الذي يبقى عالقاً في الروح ويتمدد كالرحيق الخاطف، ليمنح كونه الشعري القوة الذهنية والفلسفية، في إيقاع ملحمي وتخصيب مفتوح على حركة الحياة، والتجلي المتماهي مع الأفكار المنسربة كالفنارات الموسومة بالارتواء واليقظة وفكرنة النص، ولذا فعنونة قصائده تتكشف عن دلالات دينامية، بوصفها عتبة الدخول إلى بهو متنه الشعري وفضاء حلمه، حيث ينطوي العنوان على قدر من الاختزال والمحو القصدي للمباشرة، فقصيدة "نرجسة الخيلاء" نعتها الدكتور عبدالعزيز المقالح بأنها: "قصيدة مركبة شديدة التعقيد على من لم يتعامل مع هذا النوع من الشعر المتداخل المعاني المتعدد الأصوات والرموز".