منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي والعلماء والخبراء ينوهون عن قرن قادم مختلف.. قرن سيعيد تشكيل مكونات الحياة الأساسية: الإنسان والدول والأعمال.. وبالطبع كل ما يتعلق بهذه المكونات الأساسية. وقد ألفت الكتب وألقيت المحاضرات وأجريت الأبحاث.. وتم الاتفاق ـ كما يقول جون نيسبت في كتابه "التحول الكبير" ـ على أنه من السخف ألا نعيش العصر الرقمي في العصر الرقمي. والآن وبعد مضي ما يزيد على عقد من الزمان من الألفية الثالثة ظهرت بوادر تصادم بين العصر الماضي والعصر الجديد. هذه البوادر لا بد من الانتباه إليها وأخذها على محمل الجد. والمؤهلون للتعامل مع هذه المستجدات هم الجامعات بمهامها البحثية، والمدارس بتنشئة الأجيال على كيفية التصالح مع هذا العصر وتفادي التصادم معه، عن طريق تبني قيم عصرية تكفل هذا التصالح. فنحن نعيش عصرا مختلفا يتطلب تعليما مختلفا، يتطلب تعليما متقدما، لا التعليم الذي يمارس إعطاء مواد موحدة وواجبات موحدة لجميع فئات الطلاب، أو ما اصطلح عليه بـUniform Assignment أي أن تكون كل الواجبات والمهام التي يكلف بها الطلاب والمواد التي تدرس متشابهة لجميع فئات الطلاب، تماما مثل تشابه الزي المدرسي الذي يرتدونه، لا التعليم الذي يعمل فيه معلمون غير ملهمين وغير مدربين. ولا التعليم الذي لا يتبنى مناهج تناقش مشكلات وقضايا معاصرة. التعليم الحقيقي الذي يكون أساسا لكل القيم هو الذي يلعب دورا أساسيا في مختلف مجالات التنمية، ويكون أساسا ومنطلقا لها. التعليم الذي يطلب من المتعلمين القيام بمشروعات تتسم بالجدية ويشرف عليها معلمون متميزون ملهمون. التعليم الحقيقي الذي يستخدم الإحصاء والفرضيات والاستنتاج والاحتمالية، الأمور التي تدعو للتفكير وينتج عنها إبداع، وتؤدي إلى إكساب المتعلم القدرة على التفكير. بعبارة أخرى التعليم الذي يكون هدفه الأخير إكساب المتعلمين مهارات التفكير والإبداع والابتكار وإنتاج الجديد، التعليم الذي يكفل التعايش مع العصر بسلام. هذه مؤشرات يمكن بها قياس نوع التعليم الذي يمارس في أي مدرسة لنعرف بالتالي هل القيم التي نسعى لتحقيقها في مجتمعنا ستتحقق أم لا. وإذا دخلنا في التفاصيل نجد أن مادة الرياضيات مثلا تدرس بطريقة خطرة. فتدريس الرياضيات يبنى على مفهوم أن الرياضيات حقائق.. ولكن جميع الدراسات والبحوث تشير إلى أن الرياضيات والعلوم لا تتعلقان فقط بالحقائق، بل هي علم العلاقات وهي لغة ومنطق عصر التكنولوجيا الذي نعيشه الآن. والقوة الرياضية هي القدرة على الاكتشاف والحدس، والوصول إلى الحلول المنطقية، واستخدام مختلف الطرق والأساليب الرياضية بفاعلية لمعالجة مختلف المشكلات، والتعامل مع مختلف القضايا. والهدف النهائي من تعلم الرياضيات هو قيام جميع الطلاب باكتساب وتطوير "القوة الرياضية" للمشاركة الكاملة كمواطنين وكعاملين في عالمنا المعاصر.

هاتان المادتان تتعلقان بالابتكار والإبداع، اللذين يتطلبان تغذية الطلاب عن طريق إعداد الدروس بشكل يمكن المتعلم من التخيل ومعرفة العلاقات بين الأشياء. ويعرضهم لتجارب وخبرات، ويعطيهم جرعات مكثفة تكسبهم مهارة التخيل قبل دخولهم الجامعة. فالتخيل هو أساس الاكتشافات والإبداع والاختراع والرؤية وتقول الدراسات، إن الثقافة العلمية مطلب أساس للمواطنة؛ وذلك لأن تحليل معظم قضايا أي مجتمع بدءا من البيئة إلى الصحة يتوقف على تلك الثقافة.

أما القراءة والكتابة اللتان تعتبران مهارتين إدراكيتين مهمتين للغاية، ويمكن استثمارهما في تحليل مكونات العصر وكيفية التعامل معه.. بدلا من تدريسهما بطرق تقليدية. فلا نكاد نجد استراتيجيات تفسير وتحليل النصوص والقراءة بين السطور والاستنتاج تطبق في الفصول الدراسية. ولا يطلب من الطالب في أي من مراحل الدراسة كتابة نصوص نقدية يحلل فيها قضية من القضايا العصر، وما يمكن أن يؤول عليه.. الأمر الذي يكرس ما يسمى "التعليم السلبي" الذي يركز فقط على التلقين والحفظ لا على إنتاج أفكار جديدة. التعليم الحديث الذي يكسب القيم الفاعلة يجب أن يُربط بما يفكر فيه أفراد المجتمع اليوم، وما يشغل بالهم من قضايا، ويهدف إلى المنافسة في الاقتصاد العالمي.

أما الاختبارات، فما تزال النظرة إليها على أنها عقاب للطلاب، وأنها مصدر للخوف والاستنفار والاستفزاز، وأنها تبحث عن معلومات معدة مسبقا ويجب استرجاعها بصرف النظر عن أهمية تلك المعلومات أو جديتها. وهي أخيرا مبنية على منهج مبسط ولا يؤدي النجاح فيها إلى تخريج متعلمين حقيقيين.

الاختبارات الحقيقية يفترض أن تصمم لمعرفة: المعلومة التي تعلمها الطالب "ولماذا تعلمها؟" وهذا هو الأهم. إلى جانب أهمية استخدام الاختبارات كأداة فاعلة ومفيدة لفهم النجاح والفشل في التدريس. أين نجح التدريس وأين أخفق؛ وذلك بهدف تحسين المناهج والارتقاء بمعايير التعليم. لكن كيف يمكننا تحقيق ذلك؟.

أولا يجب أن ننقل اهتمامنا بالدرجة الأولى من الأمور المظهرية كالاهتمام بالبيئة المدرسية والتجهيزات ـ على أهميتها ـ ومما يمكن جلبه بالمال ليأتي ثانيا على أن يكون اهتمامنا الأول وتركيزنا على ما يجري داخل الفصل الدراسي؛ لأن ذلك يسهم في تقدم التعليم بنسبة لا تقل عن 85%. ممارسات المعلم داخل الفصل "التدريس"، والطرق المستخدمة فيه والواجبات المعطاة للطلاب ونوعها وأهدافها وكميتها ومدى مناسبتها لسن الطلاب وتقييمها ومدى مناسبة التقييم وأثره والمشروعات التعليمية التي يكلف بها الطلاب والبرامج التي يمارسونها وهل تم تقسيم الطلاب في كل فصل دراسي إلى مستويات: متميزون ومتوسطو التحصيل ومتدنو التحصيل، وهل يتم التأكد من أن كل فئة من هذه الفئات تتقدم فعلا، وهل يملك المعلمون الأدوات العلمية لعمل كل ذلك. وهل المشرفون الذين يزورون المعلمين مدربون على الإشراف والتوجيه على كل ما تقدم ذكره، ويستطيعون تكريس كل تلك المفاهيم وتفعيلها داخل الفصل، وعلاج قصور بعض المعلمين في ممارسة هذا المستوى من الأداء؟.

استخدام مواد وبرامج ومشروعات تتسم بالجدية وتتماشى مع العصر وتركز على الطالب وتطلب من الطلاب الإتيان بجديد عن طريق معلم متعلم ومدرب ويستخدم استراتيجيات تدريسية تكسب المتعلم القدرة على التفكير في بيئة تعليمية فيها أحدث تكنولوجيا تعليمية، كل ذلك يكسب المتعلم القيم التي نريده أن يكتسبها. وعندها يمكننا أن نخرج أجيالا يمكن أن تنافس في الاقتصاد العالمي. وإلا فكما يقول رئيس شركة جوجل: فلتستعد للتشويش.