في الأسبوع الماضي وضع الشعب الباكستاني ثقته في حزب الرابطة الإسلامية وقائده نواز شريف لقيادة باكستان في المرحلة القادمة. وليس من قبيل المبالغة القول إن باكستان اليوم تعيش لحظة تاريخية مهمة حيث تواجه أزمة سياسية واقتصادية خانقة قد تفوق قدرة الحكومة الجديدة على معالجتها.
جاء فوز نواز شريف بعد (14) عاماً من الانقلاب العسكري الذي أطاح به في عام 1999 وبعد عقد من الفوضى والحرب مع الجماعات المتشددة، والاغتيالات السياسية، وانتشار الفساد والصراع الطائفي بصفة غير مسبوقة في تاريخ باكستان.
ومع أن عملية الاقتراع شابها بعض العنف الذي اتهمت بارتكابه جماعات موالية لطالبان باكستان، وبعض التلاعب الذي أدى إلى إعادة الاقتراع في كراتشي، إلا أن لهذه الانتخابات دلائل إيجابية مهمة. أولها حجم المشاركة الشعبية، حيث أدلى نحو خمسين مليون باكستاني، من أصل (86) مليون مواطن يحق لهم التصويت، بأصواتهم، أي بنسبة (60) بالمئة، وهو أعلى مستوى للمشاركة الانتخابية منذ ثلاثين عاماً. وبالمقارنة، لم يشارك في الانتخابات السابقة في عام 2008 سوى (44) بالمئة من الناخبين.
ومن الدلائل الإيجابية لهذه الانتخابات أنها المرة الأولى في تاريخ باكستان التي تم فيها تسليم الحكم بين حكومتين منتخبتين ديموقراطياً، ففي الماضي، لم تعش الحكومات المنتخبة طويلاً، قبل أن ينقلب عليها العسكر. وأصبح الحكم العسكري، والتطرف العنيف، والفساد المالي والإداري، والرشوة والمحسوبية، والاغتيال السياسي، والصراع الطائفي أمراضاً مستوطنة في باكستان.
وأذكر حادثة مهمة شهدتُها في مارس 2007، حين كنتُ في زيارة لباكستان، كانت مثالاً للقرارات المميتة لقادة باكستان وتكون لها تداعيات كُبرى. ففي 9 مارس 2007، وكان يومنا الأخير في مدينة إسلام أباد، عزل برويز مشرّف، وكان وقتها رجل باكستان القوي، رئيس المحكمة العليا القاضي إفتخار محمد شودي، بسبب رفضه الموافقة على ترشحه للانتخابات. وكان قراراً غير مسبوق أذهلنا كما أذهل الباكستانيين، فعلى الرغم من التحديات الكثيرة في باكستان، ظل النظام القضائي محل احترام وتقدير، خاصة المحكمة العليا ورئيسها. وكما نعرف كان ذلك القرار بداية النهاية لمشرّف الذي غادر منصبه في نوفمبر 2007.
وفي حين أن مشرف أوصل الحكم العسكري إلى أبعاد جديدة كما رأينا، فإن الفساد المنظم وصل إلى أبعاد جديدة في الحكومة المنتخبة التي أعقبته، والتي كان بعض أعضائها ممنوعين من السفر على تبعة تهم رسمية لهم بالفساد. وتضع منظمة (الشفافية العالمية) باكستان قرب رأس قائمة الدول التي ينتشر فيها الفساد الرسمي، في مرتبة (33) من أصل (176) على القائمة. وقدّرت منظمات أخرى، في باكستان وخارجها، أن مئات البلايين من الدولارات تم اختلاسها من الخزينة العامة خلال العقد الماضي.
وفي ظل هذه الظروف انتشر التطرف المسلح بجميع أنواعه، وراح ضحيته آلاف الأبرياء دون تمييز. ومما يثير الفزع تزايد النزاع الطائفي بين السنة والشيعة وبين المسلمين والمسيحيين، مدفوعاً بأهداف سياسية، ولكن ضحاياه من المدنيين، خاصة بين الشيعة والمسيحيين. وتبدو معظم الهجمات عبثية ولا تميز بين المدنيين وغيرهم، وتستهدف دور العبادة والمنازل والفنادق والأسواق ووسائل المواصلات العامة.
وربما كان التحدّي الأكبر الذي يواجه باكستان هو التحدي الاقتصادي، وهو سبب ونتيجة للأوضاع المتردية على المستويين السياسي والأمني. فليس من الصعب أن نرى كيف أصبحت التحديات الأمنية والسياسية سبباً في استمرار الركود الاقتصادي الذي تعاني منه باكستان، إذ جعل عدم الاستقرار من الصعب على أصحاب الأعمال الباكستانيين والمستثمرين الأجانب الاستمرار في نشاطهم الاقتصادي، فضلاً عن التوسع والنمو.
وغادر كثير من المستثمرين باكستان، بمن فيهم الباكستانيون الذين غادروها إلى أميركا وبريطانيا ودول الجوار. وكان ممن هاجر رئيس الوزراء المنتخب نواز شريف، وهو رجل أعمال معروف، وبرويز مشرف، الذي عاد مؤخراً ولكنه وضع رهن الاعتقال في الحال، وبينظير بوتو، التي سكنت دبي قبل عودتها ومن ثم اغتيالها في عام 2008. ومما أثر سلباً على بيئة الاستثمار الحرب الدائرة بين أميركا وطالبان باكستان، التي ألقت بظلالها على جاذبية باكستان للمستثمرين، ولم تقم الولايات المتحدة حتى الآن بتعويض باكستان عن طريق زيادة مساعداتها التنموية لها، أو تشجيع الاستثمار الأميركي فيها.
والحق أن باكستان كانت في بداياتها واعدة اقتصادياً، كان من المتوقع لها أن تبُزّ الصين وجارتها اللدود الهند وغيرها من دول جنوب آسيا. ومن أسباب التفاؤل حينها، أن باكستان كانت خالية من نظام الطبقات الذي كبّل الهند وحدّ من نموها إلى يومنا هذا. كما لم تعرف باكستان، باستنثاء مدينة كراتشي، مستويات الفقر المُدقع الذي واجهته بعض مناطق الهند.
وكانت باكستان تتمتع بمستوى معيشي أعلى بكثير من الهند، كما تُظهر ذلك الإحصائيات التاريخية المقارنة التي ينشرها صندوق النقد الدولي. ففي عام 1970، كان متوسط الدخل للمواطن الباكستاني (182) دولاراً، أو خمسين بالمئة أعلى من دخل الهندي الذي لم يتجاوز (121) دولاراً وقتها.
ولكن هذه الميزة النسبية بين باكستان والهند تآكلت على مدى العقود الأربعة الماضية، للأسباب التي أشرتُ إليها، إلى أن تمكنت الهند في عام 2007 من اللحاق بباكستان من حيث مستوى معيشة الفرد، بل تجاوزتها في عام 2008.
أما اليوم فقد أصبحت الهند أحد الاقتصادات الصاعدة، ويقدر صندوق النقد الدولي دخل الفرد فيها بنحو (1583) دولاراً، أو (18) بالمئة أعلى من دخل الفرد في باكستان. وفي عام 2017 يتوقع الصندوق ألا يتجاوز دخل الفرد في باكستان ثُلثي دخل الفرد في الهند.
ولا شك أن أياً من التحديات التي أشرتُ إليها كاف لفلّ عزم أي حكومة جديدة، فما بالك بها مجتمعة؟ ولذلك فإن باكستان اليوم في مفترق طرق، وما لم تنتزع نفسها سريعاً من المأزق الذي وصلت إليه فإن الإحباط واليأس قد يدفعان بها إلى أبعاد جديدة من التفكك والفوضى.
ومن حسن الحظ أن نواز شريف، السياسي المخضرم، قد حظي في انتخابات الأسبوع الماضي بتفويض شعبي واضح لاتخاذ الخطوات الضرورية لاستعادة أمن واستقرار باكستان، ووضعها في طريق النمو والعدالة الاجتماعية والتميز الاقتصادي الذي كان مؤملاً منها لدى تأسيسها منذ (66) عاماً.
ومن حسن الحظ كذلك أنه قد اكتسب خلال الحكومة وخارجها خبرة واسعة تمكنه من تنفيذ ذلك التفويض الشعبي، فعناصر النجاح والفشل في فترة حكمه السابقة، والانقلاب الذي أطاح به، وصراعه مع برويز مشرف، وتجربته في المنفى، قد أعطته صورة واقعية لمواطن القوة والضعف والحدود الممكنة في حُكم باكستان.