منذ كانت القصيدة، بقي النص الشعري، وحالة الكتابة، مثار الكثير من الأسئلة، ومدار الكثير من الأوهام والخرافات الخارجة عن إطار النص، وما ذاك إلا لأن القصيدة بالنسبة إلى المتلقي نتيجةٌ لا يصل إليها كل من سعى إليها، فضلا عمن لا يفكر في السعي إليها، إيمانا منه بأنها صناعة خاصة، أو نتيجة توهمه بأنها لا تأتي إلا من مصادر غيبية.

كثيرة هي الدراسات والنظريات حول عمليّة الخلق أو الإبداع الشعري، ويتعيّن علينا تفسير مشكلة الإبداع الشعري ذاتها، لأنها تشكل حجر الزاوية في هذا الموضوع؛ ذلك أن البشر - عبر العصور - ينظرون إلى عملية الخلق الشعري على أنها حالة خارج المألوف، ولذا شبه العرب - مثلا- الشعر بكل نفيس يعرفونه في أوساطهم، وأحاطوه بهالة أسطوريّة حتّى اعتقدوا أنّ لكل شاعر قريناً من الجن يملي عليه هذا الفن اللغوي الآخذ بالألباب.

والأقرب إلى حقيقة الشعر أنه تعبير لغوي عن نفسية الشاعر وتفاعله مع البيئة بمفهومها الكبير، وهو يلتقي مع الفلسفة في كونه يصدر عن رؤية، ويختلف معها في اعتماده على الخيال الأبعد.

أتصور أن عملية الإلهام الشعري ليست وليدة لحظة وحيدة، وإنما هي نتاجٌ مُعقّدٌ لتجارب وخبرات متراكمة، لكنها تولد في لحظة التجلي لتنتج صورة نهائية لمؤثرات متتابعة قد تكون متباعدة زمنيا، بيد أنها تبقى مشتعلة في الوجدان حتى تنتجها الخبرة الجمالية، والتداعي الحر، والتمكن من الأدوات اللغوية، فتصير نصّا شعريّا مؤثرا صادراً كل ما يحيط بالشاعر من أسباب البؤس والشقاء، أو أسباب السعادة والانتشاء.

أزعم أن كلَّ ما يحيط بالشاعر من معنويات وحسيات وأفعال هي مصادر إلهام: التراث الشعري، القراءات بإضافاتها وتأثيراتها، المرأة في قربها وبعدها وأنوثتها وعقلها، المكان بجماله وقبحه، المجتمع بتناقضاته، الممارسات الإنسانية الشريرة والخيّرة، الوفاء، الغدر، الحب، البغض، الغضب، الرهبة، الرغبة، الكبت، الحرية، القيم؛ فالشاعر يدخل إلى بهو القصيدة متخطّياً عتباتٍ كثيرة، ذات أشكال ومستويات مختلفة، ثم إذا صار تحت قبة النص فإنه يستحضر الحالة متألما أو منتشيا حتّى إذا تيسرت له جملة البدء، بدأ في مزج الوجدان بالعقل ليصنع النص، حيث يقلِّبُ اللغةَ على جمر الشعور والفكر لتستوي لهُ القصيدةُ خلقا جديداً كاملاً ترضى بها ذاته، وتهدأ ببوحها روحُه القلقة.

القصيدة صناعة، وكل فعل إبداعي هو صناعة، وإنما يتفاوت المبدعون في الدربة والرؤى ومدى الإخلاص للإبداع، ولا علاقة لذلك بما يظنه البعض من أن القصيدة تأتي صاحبها من مصدر غيبي.