ارتبط مفهوم وأسس التعليم على الدوام بمفهوم وأسس التربية، وتتقدم التربية بكل همومها ومضامينها على التعليم ومضامينه بالكامل، سواءً على مستوى تراتب التسمية اللفظية، أو على مستوى الهاجس المستقبلي للفرد والمجتمع بعمومه، لأن التربية في جوهرها هي حصيلة دورة المزاولة اليومية، وانعكاس ذلك على طريقة التعامل مع الظروف المختلفة والأفعال القادمة في الزمن، وتُعتبر التربية حجر الزاوية الرئيسي في شخصية الفرد، وقد راهنت العرب منذ القدم أو لنقل المجتمعات البشرية كافة، على السلوك التربوي عند كل أفرادها كأعقد ما في المخرج التعليمي، وتفكيرها الدائم في نتائج وضع شكلها وسمعتها حين يكونان على المحك. نتفق جميعاً على الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة، في سبيل تنمية المجتمع وإنسانه، وهي التي ترى في التعليم أحد أهم المقومات الرئيسية لبناء المستقبل الإنساني بكل تفاصيله، وفي الواقع نقرر نحن ذلك أيضاً دون أدنى شك، ويُعتبر الإنفاق الحكومي على القطاع التعليمي من الأكبر على مستوى بقية القطاعات الأخرى في الدولة، والتي كان مجموعها التقريبي خلال العشر السنوات الماضية فقط (1,2) تريليون ريال، وهذا رقم كبير يعكس حجم الرغبة في تنمية الإنسان، وقد أثمر ذلك عن تأسيس (44) إدارة تعليم في عموم مناطق المملكة العربية السعودية، تُشرف على القطاع التعليمي وتراقبه عن كثب. "وتُقدر بعض الإحصائيات غير الحكومية (بعضها غير محلي أيضا)، نسبة القادرين على القراءة والكتابة في المملكة العربية السعودية بـ(96.7%) للذكور، و(94.8%) للإناث"، ويدعم ذلك وجود حوالي أربع وعشرين جامعة عامة، وسبع جامعات أهلية والعديد من الكليات والمعاهد المستقلة (الخاصة)، بالإضافة إلى أكثر من ثلاثة وثلاثين ألفا وخمسمئة مدرسة، تدار في معظم بقاع المملكة" بواسطة جيش كبير من المعلمين والأكاديميين. وهذه نسبة تعليم مُفرحة، ومرتفعة وجيدة جداً قياساً بأقطار أخرى في العالم. وقد حقق التعليم في المملكة العربية السعودية قفزات هائلة منذ تأسيسه في العام (1344)، من خلال البنية التحتية التي توصف أحياناً بـ(الجيدة)، كما أن مجانية التعليم قد ساهمت في ارتفاع معدلات ونسب المتعلمين في البلاد، وتقول بعض الإحصائيات إن نسبة الملتحقين بالمدارس الابتدائية قد بلغ (99%)، وهي فئة عمرية تعتبر من الأهداف المهمة جداً. هذه معلومات سريعة عن المنجز التعليمي في المملكة العربية السعودية.
الأحد الماضي من هذا الأسبوع، دُعيت إلى حفل تكريم المشرفين التربويين القديرين (هادي يحيى طالبي، ومحمد جابر مدخلي) من محافظة صامطة، اللذين عملا في القطاع التعليمي لأكثر من ثلاثين عاماً، عاصرا خلالها الكثير من التجارب والمدارس والنوعية التعليمية، التي طُبقت وتُطبق في نظام التعليم بالمملكة العربية السعودية، ويُعتبران من رموز الحركة التعليمية في منطقة جيزان. وقد توقفت كثيراً وما زلت أمام مقطع من كلمة الأستاذ هادي يحيى طالبي، التي قال فيها حرفياً: "لم يكن في بالي على الإطلاق، أن أطلب التقاعد المبكر يوماً ما، وكنت أقول لمن يسألني عن التقاعد: لن أترك ساعة واحدة من العمر المخصص لي في العمل. ولكن بعد اجتماع المشرفين التربويين في أبي عريش للعام (1433)، قررت التقاعد للأمور التالية – وهي وجهة نظر خاصة بي-: كثرة التنظير المتوالي، والابتعاد عن التربية، والاهتمام بالمظاهر والشكليات، وعدم الاستجابة والتفاعل مع المستجدات في ميدان التعليم".
هذه العبارة المقتبسة من الكلمة لا تبدو عادية، لارتباطها بعوامل عديدة تجعلها على جانب كبير جداً من الأهمية، فهي صادرة عن رجل خبير في مجال الحركة التعليمية، وثانياً لأنها حملت ملاحظات مهمة تتحدث عن مأزق حقيقي تعيشه حركة التعليم مؤخراً. والكلمة في رأيي خطاب صريح موجه إلى وزارة التربية والتعليم، وسأترك لكم بقية الحديث لتقرروا بأنفسكم مصير وشكل نقاشاتكم، ولتعقدوا أيضاً مقارناتكم بين الأمس واليوم حول ذلك.