فاضل العمري

محاضر بجامعة الجوف


ستبقى الفكرة القديمة تحتل مكاناً رفيعاً في أذهاننا، وبما أنها تسكن منطقة يكاد يكون الخيط الرابط بينها وبين العقل منقطعا، فهذا يعني أن تأتي هذه الفكرة لتحل في جميع أشيائنا وتصرفاتنا دون نقد أو سؤال، ليصبح حالها حال غضبة الأحنف بن قيس المعروف بحكمته وحلمه وورعه، والذي كان - كما يخبرنا التاريخ - يغضب لغضبته مئة ألف لا يعلمون سبب غضبه.

هذا تصرف يعطينا دلالة ظاهرية لما يحمل الأحنف في عقل قومه من رجاحة في العقل وسداد في الرأي، وما يمتلك من حلم وتأنٍ في اتخاذ القرار، ومن هنا فإن الأحنف لن يغضب إلا لسبب وسبب مقنع، وفي ذات الوقت فهو الحكيم وهو الحليم في قومه، وهذا يقودنا إلى نتيجة ظاهرية أخرى وهي أن مناصرة الأحنف من قبل قومه كانت مناصرة مشروطة، يتمثل شرطها في وجود سبب مقنع لتلك الغضبة التي ستجر خلفها مئة ألف غضبة أخرى وسيفاً يُسل لأجله مئة ألف سيف، والسؤال هنا.. لو حصل أن اكتشف قومه أن غضبة سيدهم كانت في مكانها الخطأ وأن الأمر لا يستحق ما هم فيه وما سيقدمون عليه.. هل سيتداولون الأمر فيما بينهم؟ وهل سيعيدون النظر في نهج سيرهم ويبقى رأي الأحنف رأي الأحنف؟ أم أن الأمر سيان لا فرق فيه بين هذه وتلك، فرأي الأحنف مهما كلفهم هو رأي قومه؟

إن استجابة قوم الأحنف للأحنف ليست استجابة عقلية كما هو ظاهر الأمر، وإنما هي في حقيقتها استجابة ثقافية قائمة على مبدأ الطاعة، وهو مبدأ يعد من أهم أدوات الفكرة القديمة في نشر نفوذها دون الوقوع في مأزق المقاومة.

لقد أصبح الأحنف بن قيس علامة بارزة لدى قومه بفضل ما كان يحمله من الحكمة والحلم، ومن هنا جاءت الثقافة لتمارس أفكارها القديمة وتحيط صاحبها بسياج من الحديد والوقار ليصبح المساس به مساسا بتعاليمها، فهو الآن لا يمثل نفسه وحسب بل ويمثل قومه وثقافة قومه، ودفاعهم عنه دفاع عن ثقافتهم ودعمهم له دعم ونصرٌ لثقافتهم.

لا فرق بين الزمان والمكان، فكما أن بعد المكان لم يكن عائقاً أمام القبائل المتناثرة لقبول الفكرة فإن بعد الزمان أيضاً لن يكون كذلك، وكان لزاماً على الفكرة القديمة أن تستغل هذا الموقف وتسير الأمور لصالحها، وتغرس في وجدان قومه أن منهم الأحنف بن قيس باسمه وفكره وحكمه وأقواله وجميع تصرفاته، وأن التاريخ سيدون لهم هذه الميزة، وحين يذهب الأحنف وجيل الأحنف لن تأخذ من مشاهد حياته إلا ما يهمها وهو طاعة قومه له، فكما كان الأحنف مطاعاً في قومه في حياته يجب أن يكون كذلك بعد موته، وكما كان مطاعاً في جيله رغم بعد المكان يجب أن يكون كذلك للأجيال اللاحقة رغم بعد الزمان، وستأتي أجيال تجد نفسها جاءت من تاريخ دونه رجال حكماء وأفذاذ قلما يكون لهم مثيل في كتب التاريخ، ومن هنا سيجد هذا الجيل نفسه أمام مهمة عظمى هي حفظ هذا التاريخ وصونه ليس في كتب التاريخ وحسب، بل وحفظه في أفعالهم وأقوالهم، وأي محاولة للتغيير هي محاولة لنسف تاريخهم وهدم الجسر الذي يمدهم بالمجد والطاقة التي تغذي بقاءهم.

إن المعضلة الحقيقية التي تواجهها الفكرة القديمة تتمثل في اسمها فليس أسوأ من القدم، ولكي تعالج هذا الخلل المهدد لبقائها وسيادتها جاءت باسم الحفاظ على ميراث الأحنف لتغرس ثراء الماضي وكماله في عقول أصحابها، وتحوله من مثلبة إلى قيمة، ومن ماض يبحث عن نفسه في كتب التاريخ إلى سيدٍ يتربع على عرش حاضرنا، وحاجة عصرية يُبذل من أجلها الغالي والنفيس، وبذلك استطاعت أن تقضي على أخطر وأهم أسباب فنائها، وإحاطتها بحالة من القدسية الثقافية والكمال، ليصبح قدمها سر تربعها على عرش ثقافتنا، وحلولها في أفعالنا وأقوالنا.