مضى حتى الآن أكثر من خمسة أشهر على إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية. وقد أسفرت تلك النتائج عن فوز صريح لكتلة إياد علاوي، بما يعني أنه هو المكلف اعتباريا بتشكيل الحكومة، إلا أن ذلك لم يتم حتى يومنا هذا. وبقي نوري المالكي، رئيسا للحكومة مع أن من المفترض وفقا لما هو معمول به استقالتها. وقد أقر أنه شخصيا جزء من المشكلة التي تعيق عملية تشكيل الحكومة الجديدة، لكنه في الوقت ذاته، يمانع في التخلي عن رئاسة الحكومة، لكونه الأفضل لهذه المهمة، رافضا الرضوخ للضغوط التي تطالبه بمغادرة موقعه. إن مغادرته لمنصبه، من وجهة نظره ستزعزع استقرار العراق، وتعيد المسلحين المرتبطين بالقاعدة إليه.

الملاحظ أن رفض المالكي ترك منصبه في الحكومة، قد تزامن مع عودة العنف بوتائر عالية فيما بين النهرين، وارتفاع أعداد القتلى والجرحى في صفوف المدنيين العزل، واستعار الصراع الطائفي. وكان المؤمل أن تنتهي دورات العنف، ويتحقق الاستقرار في العراق، ويعود الفارون بجلدهم من حالة الفوضى التي عمت العراق خلال السنوات التي أعقبت الاحتلال الأمريكي.

لم تفلح حتى هذه اللحظة، المحاولات المتكررة من قبل الوسطاء لحلحلة الأزمة. ويبدو أن الأمريكيين، غير جادين في الضغط على حلفائهم في العراق، للخروج من الأزمة الراهنة، رغم ادعاءاتهم أنهم يعملون على تحقيق المصالحة بين العراقيين. في هذا السياق، تناقلت وسائل إعلامية أنباء عن تلقي المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني رسالة من الرئيس الأمريكي باراك أوباما بشأن أزمة الحكومة العراقية. وأوضحت مجلة "فورين بوليسي" أن رسالة أوباما جاءت بعيد محاولة قام بها نائب الرئيس الأمريكي جوزف بايدن لتسوية الخلاف حول تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، خلال زيارة قام بها إلى بغداد في الرابع من يوليو.

لقد انتهت الأوضاع السياسية المتردية في العراق، وفشل الكتل السياسية العراقية المرتبطة بمشروع الاحتلال، إلى طريق مسدود. وقد دفع ذلك بمجلس الأمن الدولي لمناشدة مختلف الكتل المتصارعة، للإسراع بتشكيل الحكومة، وتصفية الخلافات فيما بينها. واتهمت منظمة المجلس الأعلى "بدر" التي يقودها عمار الحكيم، في مقابلة مع وكالة رويترز، واشنطن بالسعي لإقصائها عن السلطة.

لم يعقد البرلمان العراقي، منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات، سوى جلسة بروتوكولية لأداء القسم وعجز عن عقد جلسة يتم الاتفاق فيها على رئيس للبرلمان أو رئيس للجمهورية للمباشرة بتكليف من يتولى تشكيل الحكومة المقبلة.

قراءتنا لهذه الأزمة، وأسبابها لن تكون دقيقة، إن هي اكتفت بالتركيز على مظاهرها، دون مناقشة جذورها. فالبنية السياسية الحالية، ليست نتاج واقع موضوعي أفرزته تحولات تاريخية واجتماعية في العراق الشقيق، ولكنها في بنيتها وتشكيلاتها أحد إفرازات العدوان على العراق، الذي انتهى باحتلاله في 8 أبريل عام 2003, إنها من وجهة نظرنا ليست أزمة حكومة، بل أزمة نظام، فرض على العراق، من خارج بيئته وتربته، ومثلت تشكيلا مشوها وغريبا على العراق وتاريخه.

إن صيغة القسمة التي عبر عنها الدستور الذي هندسه المندوب السامي الأمريكي، بول برايمزر، تجعل من الاحتراب الطائفي جزءا من بنية "العراق الجديد". فحين تتحول الطوائف إلى أحزاب سياسية، وتمارس أنشطتها انطلاقا من موقفها الفكري المناهض لفكرة المواطنة، يكون من الطبيعي، اختلاط الأمور، فتتحول الصراعات الطائفية، إلى صراعات سياسية، هدفها الاستحواذ بأكبر المقاعد للطائفة، وإقصاء بقية الطوائف الأخرى. وفي ظل الإقصاء والتهميش، لا يغدو هناك أي مشروع وطني جامع يلتقي عنده شعب العراق.

وحتى داخل بنية المؤسسات التمثيلية، لا يسعى المجتمعون تحت قبة المجلس إلى إيجاد برنامج وطني جامع، لمختلف مكونات النسيج الاجتماعي. تصبح مهمة كل عضو، هي العمل على تحسين أوراق طائفته، وزيادة حصتها في العوائد والمكتسبات. يغيب العمل الجاد من أجل مصلحة الناس، ليتحول إلى الاهتمام بالطائفة وكانتوناتها. ولا مندوحة للمؤمنين بالطائفة، سوى السير في ركاب التهميش وسياسات الإقصاء. وحينها تبقى البلاد والعباد يعيشون في غياهب الماضي السحيق، وهويات ما قبل التاريخ، دون مشاريع نهضوية، ودون تنمية وبناء. تسمع جعجعة كثيرة، وحديثا عن التعددية والديموقراطية، ولا ترى ما يجسد ذلك على أرض الواقع.

يتحول كفاح الشعب من مواجهة بين الاحتلال الخارجي الغاشم، وبين الشعب المراد إخضاعه، والذي يطمح إلى النضال من أجل تحقيق الاستقلال، إلى حروب داخلية طاحنة، بين أبناء الوطن الواحد. والنتيجة الطبيعية لذلك، هي انهيار الدولة الوطنية، كما انهار من قبل المشروع الوحدوي العربي، إثر قبول العرب لخدعة التحالف الغربي، في الحرب العالمية الأولى، وتكشف تلك الخدعة في اتفاقيات سايكس- بيكو.

وكما تحولت فكرة الأمة، بعد انهيار المشروع القومي، الفكرة التي اتكأت على عنصري التاريخ والجغرافيا، وأيضا الاقتصاد المشترك، ليقام على أنقاضها، هوية وطنية فلكلورية، غيب فيها البعد الحقوقي للمواطنة، وجملة العناصر الأخرى، التي تمثل مصدات في مواجهة الاستبداد، فإن خلاصة التجربة العراقية الجديدة، هي تفتيت الدولة الوطنية، ليقام على أنقاضها دويلات الإثنيات والطوائف، وليغيب الحضور القطعي للعراق، إلى الأبد.

لقد كررنا فيما سبق، أن طريقة ممارسة السلطة في الدولة والقواعد والقوانين، التي يعبر عنها بالدستور هي التي توجه حركة المجتمع. وهي التي تحدد طبيعة وشكل النظام السياسي. وقلنا أيضا إن الأعراف والآليات التي ينبثق منها الدستور ينبغي أن تكون سابقة عليه، وإلا أصبح الدستور معلقا بالهواء. إن الدستور على هذا الأساس، هو المعبر عن ضمير الأمة وتوقها في صياغة مستقبلها. وإذا فهو ليس لحظة عابرة في التاريخ، بل هو نتاج تراكمه. ويقتصر دور الفقهاء فيه، على استلهام الإرادة التي عبر عنها تراكم الفعل الإرادي الإنساني، وليس حكم الأهواء ونزوة قوى الغطرسة.

لحظة قيام الدولة الحديثة، المدعمة بدستور عصري، هي ليست لحظة احتلال، أو انقلاب أو تغيير سياسي، ولكنها لحظة توازن ووعي مطلوب، لترجمة القيم السياسية والحقوقية والأخلاقية التي يؤمن بها المجتمع. وينبغي في كل الأحوال، ألا تمثل نقضا للعقد الاجتماعي الذي استمد منه تاريخ العراق حضوره، والذي عبر عن وحدته من شمال البلاد في زاخو، إلى جنوبها بأم قصر. لحظة يتجه خطها البياني إلى الأعلى وليس إلى الأسفل. بمعنى، أن الخط ينبغي أن يسير باتجاه تعزيز وحدة أرض وشعب العراق، وليس بإيجاد مشاريع تأخذ من حصة الوحدة الوطنية، لتجعل من العراق أشلاء مجتمعية متناثرة.

الأزمة الحالية في حقيقتها ليست أزمة حكومية، بل أزمة في الهياكل والدستور والمؤسسات التي خرجت من رحم الاحتلال، وما لم تتم إعادة النظر بها، فليس أمام العراق سوى المزيد من التشظي والانهيار والتفتيت.