يبدو أن الديموقراطيين فعلا هم مجموعة من المثقفين ومؤلفي الكتب وأصحاب النظريات المثالية التي تطرح مواقف تجاه التحولات قد لا تليق بما ينتظره العالم من الولايات المتحدة، هل هذه رؤية مثالية لما ننتظره أصلا من الولايات المتحدة؟ في الواقع ليست كذلك، ومن الطبيعي جدا أن تنهض الولايات المتحدة بأدوار مؤثرة وحقيقية في مختلف المراحل التي يمر بها العالم وتحديدا المناطق التي تشهد أعمق وأهم تحالفاتها وعلى رأسها الشرق الأوسط. في زمن القطب الواحد تظل الولايات المتحدة تحرص دائما على إتمام شروط امتلاكها وأحقيتها بكونها القطب الأوحد والقوة العظمى، هذه رؤية يبدو أن الجمهوريين يستوعبونها أكثر بكثير من الديموقراطيين، صحيح أن عهد الرئيس الجمهوري السابق شهد حزمة من أضخم الأخطاء وأكثرها غباء، إلا أن المضاعفات الحقيقية جاءت بعد ذلك حين وصل الديموقراطيين للحكم في 2009 حينما فاز المرشح الديموقراطي باراك أوباما، يبالغ الديمقراطيون كثيرا في ادعاء الحكمة مع ما يستتبع ذلك من مبالغة في التعلّم من أخطاء الماضي مما ينتج عنه انكفاء واسع على الداخل الأميركي وقضاياه المحلية، مع تحركات غير مؤثرة في الحفاظ على الدور العالمي لأميركا.
مع اندلاع الثورات في بعض البلدان العربية أخطأت واشنطن في انصياعها خلف الأفكار الحالمة والمثالية التي تتغنى بالديموقراطية وثورات الشباب وبزوغ فجر الحرية واندلاع اليقظة في شوارع العالم العربي وركضه المفاجئ نحو الديموقراطية، اعتنق الديموقراطيون هذه العناوين إلى أقصى حد، ومن يراجع الخطاب الذي ألقاه الرئيس أوباما عن مصر بعد تنحي مبارك عن الحكم سوف يجد كثيرا من الأفكار المثالية التي ما لبثت الوقائع في مصر أن أثبتت خلافها تماما، مما جاء في الخطاب: أعلم أن مصر الديموقراطية ستؤدي دورها القيادي في المنطقة والعالم. ولعل الواقع الآن يكشف أين باتت الديموقراطية المصرية.
أيضا يبالغ الديموقراطيون في إثبات أنهم يختلفون جدا عمن سبقهم، هذا واضح للغاية في تعامل واشنطن مع الآثار والتحولات الناجمة عن تلك الثورات في البلدان العربية، كانت المحاولة الأبرز تتمثل في سعي الولايات المتحدة للعب دور في ليبيا ما بعد القذافي مع أن الذي أطاح بنظام القذافي ولاحق مرتزقته كان قوات الناتو، جاءت حادثة القنصلية الأميركية في بنغازي التي وقعت في ديسمبر الماضي لتعيد الرعب في أوساط الديموقراطيين لتعزز حالة الذعر القائمة لديهم من أي دور ميداني خارج أميركا. ولعل ذلك الحادث كان بالفعل آخر محاولة أميركية معلنة للتأثير في دول الثورات، ليعود بعدها الدور الأميركي إلى ما يسميه سامي عون الأستاذ في جامعة شيربروك الكندية: القيادة من الخلف.
يظهر ذلك جليا في موقف الولايات المتحدة من الثورة السورية، ومن التدخل الإيراني ومن الموقف الروسي، كلما رأت الولايات المتحدة دورا أو موقفا مؤثرا لموسكو في مجريات الأحداث في سورية تتحرك لتكون اسما حاضرا في المفاوضات والاجتماعات إنما دون أن يغير ذلك شيئا من الأحداث على الأرض، والزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي جون كيري لموسكو تؤكد ذلك، هذا ما يسعى إليه الديموقراطيون غالبا: أن تظل أميركا شرطي العالم لكنها الشرطي منزوع السلاح، أو الشرطي الحكيم القادر على إسداء النصائح. الآن الدولة التي تبدو أقل تأثيرا في مجريات الأحداث على الأرض في سورية هي الولايات المتحدة.
ليس مستبعدا أن تذهب واشنطن بعيدا في دعم حكومات الإخوان في المنطقة، لأن هذا هو المتاح أمامها، وليس لأنه الاختيار الأنسب، سوف تضمن من خلالهم الحفاظ على أمن إسرائيل لكنها في الوقت ذاته ستلعب كثيرا على فكرة أن هذا ما جاءت به صناديق الاقتراع وستضطر هنا لتغافل الشارع والإعراض عن مطالبه وطموحه في ديموقراطية حقيقية.
ترى هل من المبالغة القول إن كل هذه التحولات التي يمر بها الشرق الأوسط كانت ستكون مختلفة لو أن رئيسا جمهوريا في البيت الأبيض؟ في الغالب أن الإجابة هي بالفعل: نعم.