يعاني المجتمع السعودي من مشكلة كبرى اسمها "عدم الانضباط"، وهذه المشكلة تكاد تكون مستشرية في كل الدّوائر الحكومية، وتبدأ هذه المشكلة - للأسف - من الأساس، من المدرسة بمنزلتها أول مجتمع تنظيمي يلتحق به الطالب، إذ إن من يطلع على لائحة عقوبات عدم الانضباط في المدارس "الخاصة بالطلاب" يجدها هُلامية وهشّة وسلبية، ولا ترسخ في الطالب روح الانضباط واحترام الأنظمة، ولذلك نجد كثير من طلابنا بعد تخرّجهم في المرحلة الثانوية لا ينجحون عمليا، بسبب افتقادهم لصفة الانضباط، وخاصة عند الالتحاق بالقطاع الخاص، والسبب حرص القطاع الخاص على تطبيق الأنظمة بدقة متناهية، لتحقيق الإنتاجية التي هي أساس العمل الاقتصادي الربحي في القطاع الخاص، وهو ما لا يطيقه "معظم" الشباب السعودي! ولهذا السبب بالذات يُفضل الشباب الالتحاق بالعمل الحكومي؛ لأن عقوباته ضعيفة! ولا تطبق إلا في أضيق الحدود، لكن في رأيي المتواضع، إن أخطر ما في هذه المشكلة - إضافة إلى ضعف الإنتاجية في العمل - أنها أوجدت "ثقافة" سلبية، إذ إن المنضبط في عمله أصبح يتحمل عبء القيام بعمل "غير المنضبط" دون أيّة مزايا أو مقابل حتى ولو "معنويا". وفي المقابل لا يخسر "غير المنضبط" إلا القليل، وربما لا يخسر أي شيء من حقوقه ومزاياه. إذ يتم غالبا "التجاوز" عن مخالفاته بحجج واهية وقناعات سلبية تتمثل في "لا تقطع رزقه، وقطع الأعناق ولا قطع الأرزاق، وفكّرْ في أسرته ليس لهم ذنب"، علما بأن النظام نفسه يراعي الجوانب "الإنسانية"، ولكن بشرط ألا تتسبب في الإخلال بالعمل أو الإضرار بالآخرين، وهم زُملاؤه في العمل وأيضا المراجعون. فالإداريّون "يعتقدون" خطأً أنهم يرتكبون "إثما" لو تسبّبوا في الحسم أو فصل الموظف "غير المنضبط"، ناسين أو متناسين أنهم يرتكبون "آثاما" حين يتغاضون عن "عدم انضباطه"، إذ يساعدونه على الحصول على ما لا يستحق، ويساوون بينه وبين "المنضبط"، أي يساوون بين من يعمل ومن لا يعمل، في تطبيق عكسي للعدالة الإلهية التي تقرّر "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"، وهي تنطبق على العلم وعلى العمل أيضا كما يقول العلماء، ألم أقل لكم إنها ثقافة سلبية، حتى إن الموظفين المنضبطين يطلقون على "معظم" قادة العمل الإداري وصف "جابر عثرات مخالفي النظام.. وصائد هفوات الملتزمين بالنظام"!.

كذلك من المبادئ "السلبيّة" أن بعض الموظفين القدامى "المنضبطين"، ينصحون الموظفين الجدد بعدم الانضباط، ويحذرونهم منه، منطلقين من معاناتهم، وكأن الانضباط أصبح عيبا، ونتيجة لذلك تجد "معظم" الموظفين الجدد من فئة الشّباب "غير منضبطين" بسبب انتشار هذه الثقافة السلبية. إنها مشكلة كبرى، حين يصبح الانضباط "عيبا" وعدم الانضباط "ميزة"! والسبب الرئيس في وجود هذه المشكلة في اعتقادي الشّخصي على المستوى الوظيفي، ضعف وتجاوز "معظم" الإداريين المسؤولين عن تطبيق الأنظمة على اختلاف مستوياتهم، من أعلى المسميات إلى أدناها، بحجج وقناعات سلبية في معظمها. وكم أتمنى أن يعلم "الإداريون" أن الانضباط "ميزة" واجبهم الحفاظ عليها.. خاصة وأن الانضباط في "معظمه" يُعبر عن انضباط ذاتي، وسلوك شخصي، وعادة تربوية للمنضبط. وأن يعلموا أيضا أن "عدم الانضباط" مرض خطير عليهم معالجته بكل السبل، الإنسانية أولا، فإن لم تنفع فلا لوم عليهم لو طبقوا الأنظمة، وأن يعلموا أخيرا أن المساواة بين "المنضبط" و"غير المنضبط" ظلم كبير، وهذا الظلم إن استهان به الإداريون، فهناك عادل لا يظلم أبدا سيقتص للمظلوم من الظالم؛ لأن الله برحمته قد يتجاوز عن حقوقه على العباد، لكنه لا يتجاوز عن حقوق العباد بعضهم على بعض.