البزبوز هو الصنبور، ولكن ما الذي ربط الصنبور بـ"الحنفية"، هل هو محض صدفة أن يكون مخترع "البزبوز" اسمه حنفي؟ أم هو فعلا ارتباط بالمذهب الحنفي؟

يقال والعهدة على الرواي: ـ ومعظم كلام الرواية التالي منقول مع شيء من التصرف ـ إنه قبل مدّ مواسير المياه إلى المنازل كان الناس في مصر يحصلون على الماء عن طريق "السقا" مقابل أجر يعطى له حسب عدد قرب المياه التي يجلبها للمنزل. لم يكن يسمح لأي شخص بأن ينضم إلى طائفة السقائين، بل كانت هناك شروط صارمة للانضمام إلى المهنة، إذ لا بد أن يتمتع بجسد قوي قادر على مشقة حمل المياه مرات متعددة، وأن يكون خاليا من الأمراض حتى لا يلوث المياه التي ينقلها، ويشترط أن يكون أمينا؛ لأنه الشخص الوحيد الذي يسمح له بالدخول عندما يكون رب البيت غائبا.

ظل السقا يؤدي دوره ويكتسب رزقه ولم يدر في ذهن واحد منهم أن يأتي يوم يجدون فيه أنفسهم قد فقدوا وظيفتهم التي لا يعرفون غيرها، وجاء اليوم الذي امتدت فيه المواسير إلى المنازل، وبدلا من "السقا" أدار الناس مقبض قطعة معدنية يتدفق منها الماء، وهو ما هدد السقائيين بالقضاء على مصدر رزقهم وفناء مهنتهم، فلم يستسلم السقاؤون لهذه المواسير والصنابير التي جاءت لتزلزل عرشهم الذي ظلوا يعتلونه أزمنة طويلة، بل تجمعوا وتباحثوا وتوصلوا إلى فكرة ذكية وخبيثة، وتوجهوا إلى أئمة المذاهب الأربعة لاستصدار فتوى بأن ماء مواسير المياه لا تصلح للوضوء فصدقهم أئمة الشافعية والمالكية والحنابلة وأفتوا بأنه لا يجوز الوضوء من ماء الصنابير، أما أئمة المذهب الحنفي فقد توجهوا وجهة مخالفة وأفتوا بأن الوضوء من ماء الصنبور مقبول بل ومستحب، ومن هنا سمى المصريون الصنبور "الحنفية" نسبة إلى أئمة المذهب الحنفي الذين خالفوا أئمة المذاهب الأخرى، وأجازوا لأهل مصر الوضوء بماء الصنبور.

كانت فتوى الأحناف هذه كافية للقضاء على مهنة "السقا"، وعلى ذكاء أصحابها الذين حاولوا ممارسة السياسة وطريقة "اللوبي" المذهبي لتشتيت الناس عن هذا الاختراع الجديد "البزبوز أو الصنبور" الذي أوصل المياه بيسر وسهولة إلى منازلنا دون عناء ولا حاجة للسقا.

لجوء السقائين للفتوى الدينية للحفاظ على صنعتهم، وانخراط المفتين معهم سواء عن قصد أو غير قصد في هذا الباب ليس حدثا فريدا في بابه في ماضي تاريخنا ومعاصره، فنحن نراه ونعايشه كل يوم مع كثير من المستجدات التي ترد إلينا والنوازل التي تحل علينا، فنجد مجموعة من الرافضين لهذا الجديد يسألون العلماء بأسئلة يتضمن سياقها توجيه المجيب على السؤال في فتواه إلى الانزلاق نحو التحريم من باب التحرز وسد الذرائع، وكثيرا ما سمعنا ذلك السؤال الذي تشابهت مقدمته واختلف مضمونه: "ما رأي فضيلتكم في كذا وكذا التي عمت بها البلوى..."، ثم ما يلبث هذا الجديد أن يصبح عرفا بين الناس، وأن تغدو تلك الفتوى على جلالتها أمرا غريبا مستهجنا كفتوى المذاهب ضد البزبوز في مقابل فتوى الأحناف التي تعاملت مع هذا الجديد الوارد "في ذلك الزمن" بشكل عقلاني وتأصيل صحيح فتفردت بالسبق.

عايش جيلي في بداياته صراعا قويا بين المفتين بتحريم الفيديو وبين رغبة المجتمع في استخدام هذه التقنية الجديدة، خاصة وأننا كنا نتجمع كل فترة من الزمن في بيت أحد أقاربنا لنشاهد آخر الأفلام المصرية على جهاز عرض البكرة "المزعج والرديء" وكانت شاشتنا عبارة عن قطعة قماش بيضاء تعلق بعناء وعناية على الحائط، ثم لم يلبث ذلك العراك مع الفيديو أن تحول إلى نوع من التعايش وظهرت التسجيلات الإسلامية التي تبيع أشرطة الكاسيت وأشرطة الفيديو لمحاضرات مشايخ الصحوة، وأصبح الحديث عن تحريم الفيديو في ذاته مستغربا.

وفي تلك الفترة أيضا استطاع البعض منا ـ "في المنطقة الغربية ـ أن يلتقط إرسال التلفزيون المصري، وبدأنا نركب لواقط الاستقبال على الأسطح، بينما كان هنالك من يقول بالتحريم، وبقي يقول بذلك حتى ظهر من العقلاء من وجه الخطاب من التقاط الإرسال ذاته إلى المحتوى والتحذير منه، واستمرت القصة مع كثير من المستجدات تستنكر وتحرم ثم تستخدم وتوظف، وقائمة هذه المحرمات المباحة تطول "كاميرا التصوير التي حرمها البعض ونهى عنها، ثم فرج عنا قليلا بالسماح باستخدامها للضرورة مثل البطاقات، ثم قبل لأنها تختلف عن التصوير المذكور في الحديث وتعايش معها بل ووظفها لصالح الدعوة، البنطلون الذي لبسه بعض من الناس قال عنه في أول تعرفه عليه أنه تشبه بالغرب، الدش الذي قال البعض بدياثة من يركبه في بيته وأنه يموت غاشا لأهل بيته ثم جاءت معه بعد ذلك القنوات الإسلامية وأصبح من المسلمات، برامج التواصل الاجتماعي في بداياتها والتي غدى متابعو بعض الدعاة فيها بالملايين.

إنها دعوة خالصة من القلب أن نتريث قبل إصدار الأحكام على الجديد لمجرد أنه جديد لم نعرفه من قبل، أو لتعارضه مع أمر تعودنا عليه وأخذناه على أنه من المسلمات، أو لغرض الحرص على بقاء توجه معين أو أصحاب منفعة معينة تهم الناس، ولكن المنفعة المتحصلة من هذا الجديد أهم وأجدى. قبل أن تصدر الحكم أخي الكريم ضع نصب عينيك قصة "بزوبز الحنفية".