لم تكن بداية "الثورات العربية" إلا بداية لجر المنطقة إلى فتنة لا تبقي ولا تذر، هذا الأمر استبصره من يقرأ الأحداث بسياقها الدولي بعيداً عن توهمات الحالمين الذين غطت عواطفهم عن استبصار حقيقة ما يجري، فالقضية لا تعدو توريطاً للمنطقة كلها بـ(خارطة دم) يتم من خلالها تطبيق المخططات المرادة منذ عهود بعيدة، واستراتيجية خارطة الدم تقوم على مبدأ خطير مفاده أن كل هدف تريد أن تصل إليه من خلال التفاوض السلمي لعشرات السنين، تستطيع أن تقوم به من خلال إثارة الفتن والدماء التي تقنع الأطراف بما تريده مباشرة.

كانت القضية "السورية" منذ بدايتها قضية معقدة، لأن سورية تتميز بموقع جغرافي خاص، فهي من جهة قريبة لإسرائيل وحدودية معها، وهي من جهة أخرى تمثل الامتداد الطبيعي للهلال الشيعي المنتظر والذي يخطط له ملالي إيران منذ سنوات طويلة، وفي داخلها مكونات "طائفية" متحفزة للصراع منذ أمد، وفي نفس الوقت لها امتداد قديم مع السوفيت في السابق، ثم مع روسيا اليوم، وهي متاخمة للبنان وخاصة جنوبها الشيعي الذي تعتبر علاقته بالنظام السوري علاقة عضوية سياسياً وعقدياً، وكل هذه الميزات إن صحت التسمية تجعل التغيير فيها ليس بالأمر السهل واليسير، وأنه سوف يجر تبعات كبيرة على المنطقة كلها، فالخيار إما اقتسام الغنائم بين القوى الكبرى بعد الإنهاك، أو حرب لا تبقي ولا تذر، وكلا الخيارين صعب للغاية.

كانت القضية السورية للمملكة العربية السعودية ولدول الخليج قضية حياة أو موت، فالحديث عن "الهلال الشيعي" أمر معروف، والطموح الإيراني في المنطقة لا يخفى على أدنى متابع، ولكنه لم يكن ظاهراً بشكل كبير إلا حين ارتمى الأسد في حضن طهران، فبدأت الكماشة تظهر جغرافياً للعيان من خلال حصار المنطقة بهذا الهلال، وكانت مصر زمن الرئيس مبارك واقفة أمام اكتماله من جهتها، ولكن الهلال كان يزحف إلى مصر من خلال التغلغل في سورية والذي أوقف حين بدأت الثورة السورية مما جعل إيران تتبنى القضية كأنها هي التي تحكم سورية، وبدأت روسيا تدعم النظام البعثي في سورية لأنها تسعى للمحافظة على وجودها في المنطقة استراتيجياً بعد أن كنست من أفريقيا بعد الثورة الليببية التي أطاحت بالقذافي، ولذلك أصبحت القضية السورية بالنسبة لروسيا قضية وجودية سياسياً واقتصادياً مع تنامي الطموح القيصري وإعادة الحرب الباردة كما كانت أيام الاتحاد السوفيتي. ومع تصاعد العمليات العسكرية للنظام السوري ضد الثوار، ودخول حزب الله اللبناني للمشهد وخاصة في أحداث القصير وانتصاره فيها، وحشد النظام الجيوش تجاه مدينة حلب والتي ربما ينسى الناس القصير من هول ما سيجري فيها وخاصة حين انتهج النظام السوري نهج روسيا في الشيشان والعمل على سياسة الأرض المحروقة لإحداث الفارق العسكري، كل ذلك يعني أن الثورة على النظام قد تنهى بأي لحظة، وتتحول إلى حرب عصابات طويلة الأمد، وهذا في المقابل سوف يسهم في اكتمال الهلال بشكل ظاهر وحينها لا تسأل عن هلكة العرب ومشكلاتهم الجسيمة وخطورة وضعهم تجاه الطموح الإيراني في المنطقة.

إن كل ما جرى ليس خطيراً إذا ما قورن بالخطورة الحقيقية التي تمثل "الحلف الخفي" بين مشروع أميركا في الشرق أوسط الكبير والتوافق مع المشروع الإيراني في المنطقة وإحلال الحلف الشيعي محل الحلف السني، والذي بدأ منذ أيام الثورة الخمينية التي دعمت من الغرب وكانت خياراً لأميركا بدل الشيوعيين، ثم ما حدث في غزو أفغانستان والدعم اللوجستي الذي قدمته إيران لأميركا التي يسمونها الشيطان الأكبر، وظهر هذا الحلف الخطير جلياً جداً حين غزت العراق الذي كان يعتبر البوابة الكبرى للعالم السني، وقتلت صدام حسين ثم سلمت العراق على طبق من ذهب لإيران وحلفائها في العراق، وهي في كل الأحوال مستعدة لتسليمها مزيداً من الأراضي السنية أو تمهيد الاستحكام السياسي على المنطقة واقتسام الكعكة مع إسرائيل، وما قضية المفاعل النووي إلا تضعيف لإيران وطموحها وفرض الحصة التي يريدها الغرب عليها، وهذا يجعلنا أمام منعطف خطير للغاية، والخشية الكبيرة هي أن تكون أميركا تريد جر أقدام دول الخليج إلى القضية السورية حتى تعطي الذرائع كاملة لإيران وجيوبها بأن يفعلوا فعلتهم التي يخططون لها منذ سنوات طويلة لإرباك المنطقة وإحداث المشكلات فيها.

لقد انعكس مفهوم "التقية" الشيعية في البعد العقدي على ظهورها في البعد السياسي، فصارت إيران تمارس "التقية السياسية" التي تعلن خلاف ما تبطن، فهي وفي وقت الثورة الخمينية التي قامت على شعارات معاداة الغرب وإسرائيل تتضح الأمور وتنكشف بفضيحة "طهران جيت"، والتبادل الكبير بين إسرائيل وإيران عسكرياً واقتصادياً، وفي الوقت الذي تعلن فيه أن أميركا "الشيطان الأكبر" تنقل جنودها في أفغانستان والعراق لمساعدة الأميركان على احتلالهما، وهي الآن قد تحصد ثمار الثورة السورية وتضحي حتى بحليفها في سبيل أن تسلم لها سورية مباشرة، أو إرضائها بجزء من ثروات الخليج لتكف عن اكتمال هلالها، والخيارات أمامها مفتوحة وكبيرة.

إن ترشيح الغرب لإيران و"الشيعة" حليفاً استراتيجياً لم يكن عبثاً، بل هو سيدر عليهم منافع كبيرة، فالشيعة ليس عندهم فكرة الصراع مع الغرب وحضارته، ولديهم مرجعيات تسكت الأتباع بكلمة، وهذا ما جرى في العراق حين كف الشيعة عن قتال المحتلين بفتوى أخضعت كل الأتباع، وموقفهم عموماً من اليهود وإسرائيل ليس بذاك الموقف الكبير فإيران حاضنة كبيرة لليهود إلى اليوم، وهم يتميزون ببراجماتية عظيمة تخدم مصالح الغرب في المنطقة.

إننا إن تصورنا الحدث هكذا فإننا بحاجة إلى التأني في كل خطوة نخطوها تجاه القضية السورية، وعلينا أن ندرك أن الحدث استثنائي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهذا يترتب عليه تعزيز الأمن الوطني من خلال بناء اللحمة وعدم السماح بأن نخترق من داخلنا عند تصاعد الأحداث، وتقديم مصلحة الوطن ووحدته وأمنه على كل خيار آخر، وترك كل تصعيد يهدف إلى حالة انفصال بين الرؤية السياسية والرؤى الخاصة التي تنطلق من أبعاد حزبية أو أيديولوجية مضرة، وخاصة من أولئك الذين يستأسدون عند كل فتنة أو مشكلة تمر بها المنطقة ويكشرون عن أنيابهم، فالوضع خطير والنار ستحرق الجميع إن لم نتعامل مع الوضع بحكمة وبصيرة وإدراك، والله يحفظ بلادنا قيادة وشعباً ووحدة من كل فتنة وشر.