هناك فرق بين المجادلة في سعودة قطاع الأعمال، والمجادلة في سَعودة الثقافة. والغريب في الصحافة السعودية أنها تتحرك تكراراً بين وقتٍ وآخر حاملة من أجل السّعودة الثقافية، على غرار "نفط العرب للعرب"، أو عبارة "للسعوديين فقط" في رأس إعلانات الوظائف. لكن على العكس من قضية سعودة الوظائف التي تظل قضية وطنية تطرح ذاتها باستمرار ودون أن تكون موجهة ضد أشخاصٍ بعينهم، فإن الحملات من أجل سعودة الثقافة لا تتحرك عادة إلا في مواقف ذات مواصفاتٍ محددة. وإذا كانت قضية سَعوَدة الوظائف تبحث عن حلّ مشكلة وطنية، فإن سَعوَدة الثقافة تنتهي إلى خلق مشكلة ثقافية أكبر.

ماذا تعني (سَعوَدة الثقافة)؟ لا أحد يستخدم هذا التعبير صراحة لكن، عندما يُقال "امنعوا هذا الأجنبي من الخوض في الشأن السعودي"، أو عندما يُقال "لماذا يظهر هذا الأجنبي في الإعلام السعودي؟!" فإن المُضمر هو "ثقافة السعوديين للسعوديين"، بمعنى تحويل الشأن السعودي إلى موضوع محظور على غير السعوديين، والواجهة الثقافية والإعلامية إلى واجهة للسعوديين فقط. وسَعوَدة الثقافة ليست قضية ثقافية حقيقية أو هماً دائماً. إنها دعوة تتحرك بطريقة مناسباتية، وضد أشخاصٍ مُعيّنين. تتحرك عندما يكون لهذا العربي رأي لا يعجبنا، كما في حالة الشيخ العربي الذي يفتي بمنع الطالبة المبتعثة من الدراسة إلا أن يكون تعليماً غير مُختلط؛ أو تتحرك عندما نكتشف أن مؤسساتنا الثقافية تحتضن وتُلمّع إعلامياً عربياً هو (فهلوي علاقاتٍ عامة) أكثر منه مثقفاً.

حملات سَعوَدة الثقافة التي هذه قضاياها وهذه قيمها، تساهم في استيلاد المشاكل الثقافية أو تعزيز الموجود منها في أخفّ الأحوال. فيُختصر الداء الثقافي في "الأجنبي... الوافد" وتُرمى أحماله عليه، رغم معرفة أشدّ الناقدين "للأجنبي... الوافد" أنهُ مُجرّد فاصلة صغيرة في جُملة ثقافية مركبة سعودية الأصل والمنشأ والجنسية. فالذي أنتجَ سؤال الطالبة المبتعثة والاختلاط رجل سعودي، والرجال الذين قد يأخذون بالفتوى سعوديون نعرف تماماً استعدادهم الثقافيّ المُسبق لمثل هذه الخيارات، مثلما نعرف توتّر الذهنية السعودية ككل حول الابتعاث والاختلاط والمرأة وإرثها الثقيل في كل هذه القضايا. أما عند شنّ حملة ضد الإعلامي العربي الانتهازي الذي ينجح في الاستحواذ على الواجهة الثقافية، فإن هذا "الأجنبي... الوافد" يصبح هو المشكلة، وليست المؤسسات الثقافية السعودية التي تخدم بُنيتها روّاد العلاقات العامة والانتهازيين سعوديين وغيرهم، فتسمح لهذا "الأجنبي... الوافد" بالظهور الاستعراضي الطاغي؛ وهي المشكلة التي لا يرغب ـ أو لا يستطيع ـ أحدٌ أن يُشير إليها. رواد حملات سعودة الثقافة هم أول العارفين أن "الأجنبي... الوافد" ليس هو المشكلة. وأن المشكلة في بُنية الثقافة والمؤسسات والمجتمع. وأن الضرب على وتر الجنسية والانتماء هو من قبيل استغلال نقطة الضعف، ليّ الذراع المؤلمة لهذا "الوافد" أو ذاك من أجل تحقيق ربحٍ سريع قد يتمثل في إبعاده أو إسكاته. وقد يبتعد غير السعودي، وقد تزهو الثقافة السعودية بسعودة الممارسات الانتهازية والفكر المتخلف ووضعها في أيدٍ سعودية أمينة، وبقاء مشكلاتها ورزاياها كما هي، باستثناء مشكلة إضافية سيولدها هذا اللعب بوتر الجنسية والانتماء.

هذا لأن مشروع سَعوَدة الثقافة سرعان ما يتوارى أمام حالاتٍ ونماذج معيّنة من المثقفين وأصحاب الرأي. بطاقة "أجنبي.. وافد" يتم إخفاؤها بعيداً، فلا تُرفع في وجه المثقّف العربي المدّاح الذي يُغرق الصحافة السعودية بإنتاجه المدائحي، لا تُرفع في وجه الباحث الأمريكي أو الأوروبي الذي نتلهف إلى رأيهِ وتحليله، والأهم أنها لن تُرفع في وجه عددٍ كبير من المشايخ المستنيرين الذين أقاموا في السعودية ومثلت آراؤهم وأبحاثهم ملجأ في أوقاتٍ عصيبة. من يجرؤ على التذكير بسوريّة ناصر الدين الألباني أمام فتاواه حول حجاب المرأة وقيادتها السيارة؟ هذه الانتقائية في استغلال مسألة الجنسية والانتماء تخلق موقفاً ثقافياً ركيكاً، متناقضاً، لا يليق، خصوصاً بثقافة تتّخذ هذا الموقف المتعالي بإزاء الآخرين. ويصير الأمر أسوأ إذا لاحظنا الحرية التي تمنحها الصحافة السعودية لنفسها لتخوض في شؤون بلاد الدنيا، كما هو الحال في كثافة تناول الشأن اللبناني، دون أن يحظى الكُتاب السعوديون حتى بشرف الإقامة في لبنان، لكنهم في نفس الوقت يخاطبون العرب المقيمين بيننا بمنطق: "ارفعوا أيديكم عن قضايانا"!

ما هي النتائج الحقيقية للتلاعب بمسألة الجنسية والانتماء في الثقافة السعودية؟ في رأيي، أنها مجموعة من النتائج بالغة السوء. فهي تفشل في إنهاء المشكلة الثقافية، لكنها تنجح في حَطّ المواقف إلى مستوى التهديد بالقوة والسلطة وبالإبعاد. وحَطّ اللغة إلى حدود المِنة والتعيير والتفضّل. وتخلق داخل ثقافتنا المزيد من مساحات التناقض وأخلاقيات (الفهلوة) والبحث عن الربح الإعلامي السريع في التعامل مع مشاكلنا الثقافية المزمنة. والأسوأ من كل شيء أنها تشرعن ثقافياً بقصد أو دون قصد عبر كلّ ما سبق، للمواقف العنصرية التي يستطيع أيّ تيار استخدامها لإيذاء أيّ شخص، بل التي تستخدمها فعلاً بعض التيارات لتلمز وتستعدي ضدّ صحافيين وكُتاب غير سعوديين جنسية أو نشأة، وسط استياء ورفضٍ صحافيّ وثقافيّ عام. ربما قضى السعوديون وقتاً طويلاً مشغولين بقضايا المركز والأطراف وتعنصر الآخرين ضدهم ثقافياً، وفي غمرة هذا غفلوا عن معالجة ذات الإشكال داخل ثقافتهم هم. بقدر ما تتحمّس الصحافة السعودية لـ(سَعودة الثقافة)، فإنها تفقد من مضمونها الثقافي، تفقد مادّتها وهي (الأفكار) كموضوع. فمن ناحية، نحن نعيش في عالم مُتداخل تنهار فيه مفاهيم "الشأن الداخلي الخاص" لكل دولة وتتداخل المجتمعات وتختلط الأفكار التي لا يمكن منعها من عبور الحدود أو التدقيق في جنسيتها. ومن الناحية الأخرى، لا يمكن مواجهة ما يتعلق بالأفكار والقيم والأخلاقيات بإزاحة الموضوع إلى العُنصر والجنسية، لأننا بهذا نخرج من الحقل الثقافي، إلى حقل أكثر بدائية بكثير.