استقبال الطلاب كل صباح يوما دراسيا، كان من أجمل المشاهد في تجربتي في التعليم. يتوافد الطلاب ببطء إلى فناء المدرسة. الكثير منهم يفضّل البقاء خارج سور المدرسة حتى آخر لحظة ممكنة. بسبب هذه الرغبة يتحرك عدد من المعلّمين لتحفيز الطلاب لدخول المدرسة. ربما "تحفيز" لا تعبّر بدقة عن سلوك المعلمين. بعضهم يتحرك بعصاه لـ"يحوش" الطلاب كما "يحوش" راعي الغنم أغنامه التي يحبها. وبعضهم يدعو الطلاب للدخول بابتسامته المتفائلة في الصباح. البعض الآخر يقف فقط لإعلان أن النظام يطلب من الجميع الدخول وأن المتأخرين سيتعرضون للعقوبة. طبعا الحديث هنا عن عدد بسيط من المعلمين، وإلا فالغالبية تحضر بعد حضور الطلاب ومن المتعذّر فيزيائيا عليهم المشاركة في هذا النشاط الصباحي.
مشهد حضور الطلاب مشهد في غاية الإثارة، فهو مشهد كثيف جدا. كل طالب يحضر للمدرسة صباحا بحكاية وشبكة هائلة من العلاقات. في مدرسة مثلا من مئتي طالب تتوافد عليك يوميا مئتا قصة وشبكة علاقة لتختلط مع قصص المعلمين وحكاياتهم وعلاقاتهم لنصل في النهاية إلى مكان "كثيف" إنسانيا. هذه الكثافة تجعل المدرسة مكانا استثنائيا في حياة المجتمع وحياة الأفراد. الإستاد الرياضي مكان كثيف جدا ولكنه لم يصمم ليعرف الناس بعضهم. غالب الناس تذهب لمشاهدة المباراة ثم الرحيل بدون ذكريات خارج إطار المباراة. المدرسة أمر مختلف تماما. الناس تذهب للمدرسة ليعرفوا بعضهم البعض ويبقوا مع بعضهم البعض لوقت طويل، مما يجعل من تجمّعهم جزءا جوهريا من حياتهم. العلاقات الاجتماعية هي أحد أهم دوافع الطلاب والطالبات للذهاب للمدرسة. المدرسة في العصر الحديث ربما أصبحت الفضاء الأوسع لخلق الصداقات في ظل انحسار المجال العام وغياب الشارع من حياة الجيل الجديد كمكان للقاء والتعارف.
رؤية المدرسة كشبكة من العلاقات الإنسانية الهائلة والكثيفة أمر ضروري لفهم المدرسة وما يجري فيها فعلا. الإنسان بطبعه كائن "علائقي". بمعنى أنه كائن يتشكّل بالعلاقات. أو بعبارة أخرى الإنسان كائن اجتماعي ولا يوجد خارج دوائر العلاقات الاجتماعية. في داخل هذه العلاقات الفرد مشكّل ومتشكّل. بمعنى الإنسان دائما داخل علاقة مع إنسان آخر، وأن تكوينه النفسي والاجتماعي هو نتيجة لهذه العلاقة مع الآخرين. لسارتر مقولة مشهورة وهي أن "الآخرين هم الجحيم".. ويمكننا القول إن "الآخرين هم النعيم" أيضا. الذي يجعل الآخرين نعيما أو جحيما هو طبيعة العلاقة التي تربطنا بهم. العلاقة الصحية سبب لسعادة الإنسان، والعلاقة المريضة سبب لتعاسته وألمه. التعليم لا يتحقق أيضا إلا من خلال علاقة مع طرف آخر. هذه العلاقة قد تكون قناة للتعلّم فعلا وقد تكون قناة لقطع التعلّم. مشهد الطلاب أو الطالبات وهم يدخلون كل صباح للمدرسة لاستئناف تلك العلاقات مشهد جدير بالتأمل. هل يمكن فهم ترددهم في الدخول إلى آخر لحظة أو مبادرتهم للدخول المبكر مؤشرا على طبيعة موقفهم من شبكة العلاقات التي توفّرها لهم المدرسة؟ يبدو أن الأمور تسير بهذا الاتجاه.
من الضروري هنا الإشارة إلى أن العلاقات داخل المدرسة ليست علاقات عفوية، بل هي علاقات تتم إدارتها من خلال عدة جهات. سياسة التعليم التي يفترض أن تنفّذها المدرسة ترسم طبيعة هذه العلاقات، فهي تحدد علاقة المدرسة بالمجتمع، وعلاقة إدارة المدرسة بمن في المدرسة، وعلاقة المعلمين والمعلمات بالطلاب والطالبات، وعلاقة الطلاب والطالبات مع بعضهم. المدرسة أيضا تحدد علاقة كل هؤلاء بالمعرفة والتفكير والإبداع والإنتاج والحياة. بمعنى أن الطالب يدخل في شبكة من العلاقات تم إعدادها ولو نظريا سلفا. هذه الشبكة كما قلنا هي الشبكة التي يعيش داخلها الطالب وتتشكل من خلالها ذاته وهويته ونظرته لنفسه والعالم.
العلاقات هنا ليست محصورة من منظور التحصيل المعرفي فقط. أعتقد أن هذه النظرة ضارة جدا للجميع. العلاقات التي تجري داخل المدرسة هي علاقات تمسّ عمق تكوين شخصية الجميع وتتعلق فعلا بحياتهم بكل تفاصيلها. نتذكر هنا أن الإنسان يكوّن معرفته بذاته من خلال علاقته بالآخرين بشكل أساسي. هذا البعد الشامل لمعنى العلاقات داخل المدرسة جوهري، خصوصا في هذا الوقت الذي سيطرت فيه الرؤية الأداتية للتربية. أعني تلك الرؤية التي لا ترى في التعليم أكثر من عملية لإنجاز مهارات معينة غالبا تم وضعها من القوى الاقتصادية. أي أنها ترى التعليم كعملية لإنتاج قوى عاملة وفق شروط تخضع للشرط الاقتصادي أكثر من غيرهم. في تعليم بهذه الرؤية يتم ردّ الإنسان لبعد واحد من حياته أو نشاط واحد في سلوكه لتتحول كل أبعاده الأخرى للهامش واللامفكر فيه.
كل علاقة تفرض طرفين أو أكثر. كلما ظهر الطرفان أصبح بالإمكان الحديث عن علاقة، وحين يختفي أحد الأطراف فإنه يصبح من الصعب جدا الحديث عن علاقة، وتصبح هذه الأوصاف أقرب للحقيقة: استحواذ، إلغاء، هيمنة، سيطرة، استبداد...إلخ من الأوصاف التي تشير إلى غياب طرف وحضور الآخر بشكل مفرط. المدرسة مكان خصب لمثل هذه الحالات. في الغالب أن التعليم التقليدي يقوم على هذه الحالات. لن يكون من المستغرب أن يمضي الأستاذ فصلا دراسيا كاملا مع طلابه دون أن يكون لهم مساحة للظهور، للتعبير، للحديث.. وأعني هنا تحديدا أن يكون لهم مساحة للاختلاف. الاختلاف مساحة اختبار حقيقية لطبيعة العلاقة التي تجمع البشر. البشر يحضرون بقدر ما يختلفون. أو بقدر ما يأمنون الاختلاف أو بقدر ما يشعرون بأن الاختلاف ممكن أو بإدراكهم لوجود مساحة خالية لا يملؤها الطرف الآخر، إدراكهم أن هناك خيارا آخر لما يقال ويفعل، إدراكهم أن هناك حرية. أجل الحرية شرط في تشكّل علاقة بين البشر. الحرية هي المعيار الذي يجب أن تفحص من خلاله تلك الحالات التي تجمع الناس مع بعضهم.