كانت المرأة في عسير متجانسة لا متنافرة مع واقعها الاجتماعي، حين مزجت تجربتها الحياتية مع محترفاتها التلقائية ومكتنزاتها المشروعة، في ظل عفتها وكرامتها ونبل مقصدها، وطهارة سعيها وفضيلة مجتمعها ومنظومته الصارمة وعرفه السائد المستمد من القيم العليا التي يدين بها، رأيتها ذات يوم تنحدر كغصن لوز ناحل لتسكب الماء الدافئ في (المطاهر) أي أحواض الماء في المسجد طهوراً للمصلين قبل أن تصحو طيور الحقل، أبصرتها مستيقظة مع آخر ورقة من دفتر المساء لتشعل (الميفا) التنور وتصنع الخبز لأسرتها، لمحتها وبخور الغمام يكسوها وهي تحمل (القربة) منتصبة كمهر جموح لتسحب الماء من قرارة البئر، أصغيت لـ(طرقها) وهي ذاهبة إلى الفلاة تدق أعناق الجذوع اليابسة، لتكون دفئاً في ليالي الشتاء، رمقتها وهي تركض على أديم الحقل كقطيع (القطا) تحصد السنابل وتقطع العذوق وتصرم (القضب) طعاماً للماشية، وقفت أمامها طفلاً مذهولاً وهي تصهر وتخضر جدران وسلالم دارها استعداداً لأفراح عيدها عندما كانت هناك أفراح، أيقظني صوت (رحاها) وهي تعلو وتهبط تحت كفوفها المحناة، تطحن القمح المرصع برائحة الأرض، ولذا أسرني ذلك العمل المنهجي المختلف (نساء بلا قيود.. نساء بلا حدود) للدكتور علي عبدالله موسى عسيري أستاذ التعليم الدولي المقارن، وشدني بموضوعيته الاستنباطية المتكئة على رصد وتوثيق تاريخ الحضارة البيئية، وظواهرها وتجلياتها في منطقة عسير من خلال تحليله لقضاياها العامة، واقتناص مروياتها النسقية وسماتها ومساراتها الخاصة، بأسلوب معرفي وجمالي، كاسراً الفهم المغلوط والأوهام العالقة في مخزون ذاكرة الآخر عن المرأة في عسير ودورها (المعتقدي والاجتماعي والثقافي)، محطماً القواقع الحجرية التي تكمن في مخيال بعض الدارسين لمراحل ومساقات الدلالات الاجتماعية لدورها المتعاظم في الحياة. فتح الدكتور آفاقاً واسعة وفضاءات شاسعة حين أرقه وصدمه الشرخ الارتطامي والمداليل الفجة، التي تهدم النسيج المتجانس بين ثنائيات الأرض والمرأة، وتجعلها مرتهنة لعلائق اجترارية ومقولات قاصرة وساذجة ومعيبة، تحجب الفطرية المتعالية والطقسية المألوفة والحقائق الجوهرية والمسموحات المنضبطة بالأخلاق والقيم المقدسة. إن دراسة الدكتور تفصح عن وعيٍ شديد واستيعابٍ عقلاني وكلاني لذخائر الموروث الإنساني للمرأة في عسير، حين تناولها بمعيار وظيفي وتطهير مستفاض وشعور إدراكي متفرد، انفتح البحث على فهم الفعل التاريخي للإنسان، ضمن منطق وخطاب كوني يمس جوهر البشرية ومعطياتها، ولذا جاءت الدراسة متحركة جدلية مدهشة، ترقى إلى سقف غير متناهٍ من التحليل الإجرائي والكشف البنائي والوصف الإناسي، والنزوع القيمي واستنطاق المستنبطات الحياتية لتكون مصداً ضد ذلك الاستلاب التاريخي المقيت.