توشك حركة تصحيح العمالة السائبة وغير النظامية أو ترحيلها أن تنتهي بنهاية هذا الشهر، وقبل حوالي عشر سنوات حدثت حركة ترحيل كبرى رُحَّل بموجبها أكثر من نصف مليون عامل مخالف من البلاد، والغريب أن بعض المنظمات الحقوقية في الخارج احتجت على ذلك الإجراء النظامي من دولة ذات سيادة على أرضها.. كما تحتج دائماً بعض منظمات حقوق الإنسان على عقوبة الإعدام والقتل للقاتل المجرم!

وقد كتبت في ذلك الحين مقالاً في إحدى الصحف المحلية بعنوان: الترحيل وحده لا يكفي! وخطر لي أن أكتب من جديد عن هذا الموضوع المهم الذي يؤثر على اقتصادنا ومكتسباتنا العمرانية والبنية التحتية بل وعلى حياتنا العامة جملة وتفصيلاً.

أعبر في البداية عن إعجابي بقدرة وزير العمل وحيويته وجودة أدائه ـ على غير علاقة شخصية بيننا ـ فقد بهر المواطنين بأشياء كثيرة قد لا تعجب رجال الأعمال والمرتزقة بالعمالة والمتسترين، ومهربي العمال وبائعي التأشيرات، بل إن بعضهم قد وصلت به الوطنية وحب البلد إلى استيراد أفواج من المتسولين لتشغيلهم في الداخل كبزنس! وهذا من الغرائب التي تحدث في بلادنا من أناس لأن همهم المصلحة العامة أو شرف المواطنة وإنما جمع المال بالحلال والحرام.

إن برنامج (نطاقات وتشغيل المرأة وتوظيف أكثر من (600) ألف شاب وشابة، والصراع مع الذين يضعون العصا في العربة لتتوقف المسيرة للأمام.. كلها أشياء تحسب لهذا الوزير الذي يصبر ـ كما يبدو لي ولغيري ـ ويتحمل الكثير من الضغوط النفسية من الذين لا يريدون لشبابنا من الجنسين العمل والفلاح والنجاح.. كما أن القضاء على البطالة وتعديل نظام الكفيل وتحديد ساعات العمل والرقابة الصارمة على المؤسسات والشركات وغيرها هي أشياء مهمة مطلوبة من الوزير ووزارته.

وإذا كان أي وزير هو الموظف الأول في جهازه (وزارته) فإن الوزير الناجح هو الذي يجسد بصدق وأمانة وإخلاص ما تريده القيادة العليا وتتطلع إلى تحقيقه على أرض الواقع بالتنفيذ لا بالكلام.

أعود إلى القول لوزير العمل ولوزيري التجارة والصناعة والشؤون البلدية، بأن الترحيل أو التصحيح، الذي يتم حالياً للعمالة الوافدة لا يكفي لحسم مشكلة مزمنة يعاني منها الوطن والمواطن منذ عقود وإنما يجب القضاء على مسببات المشكلة التي استنزفت منا الكثير كالتحويلات المالية بالمليارات للخارج، المياه والكهرباء والمشافي والمدارس والإدارات وكذلك الطرق والشوارع والزحام وأشياء أخرى كالأمن والأخلاق.. إلخ

هذه السلبيات الكثيرة.. تقابلها إيجابيات قليلة ويا للأسف، وأنا هنا لا أطالب بترحيل العمالة الوافدة كلها وإلا فإننا نعالج الخطأ بالخطأ، ولو ذهبت معظم العمالة لانشلّت الحياة العامة في البلاد! ولكن لو ذهبت نصف هذه العمالة لتغيرت حياتنا وبلادنا للأفضل، فما الداعي لعشرة ملايين عامل ومرافق يستهلكون ربما أكثر مما ينتجون؟ حتى السلع المدعومة شاركونا فيها وصدّروها أو هرّبوها للخارج!

إن شعباً يبلغ تعداده حوالي 20 مليونا ويستقدم 10 ملايين هو شعب لديه خلل كبير في التخطيط والتنفيذ والأداء بل وفي أسلوب الحياة!

انظروا إلى الدول ذات الاقتصاد الحر كأوروبا وأميركا... وقارنوا بينها وبين اقتصادنا الفوضوي ـ الاستهلاكي ـ المتسيّب وقارنوا بين شارع في مدينة هناك وشارع هنا ويا للعجب العجاب!! هناك تجد أن البلديات حددت أعداد البقالات والصيدليات ومحطات الوقود وصالونات الحلاقة بالعدد وحسب.. عدد سكان الشارع أو الحي، وفوق ذلك أخذت للمدينة أو القرية أو الحي (ضريبة دخل) تجعل كل الشوارع نظيفة والمدن والقرى فيها مياه وكهرباء وصرف صحي، ومركز علاج ومكتبة وناد اجتماعي.. إلخ، وقارنوا الصورة المعكوسة عندنا، مئة دكان وحانوت في شارع! وعشر صيدليات بجوار بعض ومثل ذلك المطاعم ومحلات الفول و(يابلاش/ أبو ريالين) وبضائع فاسدة تغرق الأسواق بالغش والتكدس، والمستفيد الأول هو الأجنبي أما المواطن ـ الغلبان ـ فيعمل لدى الوافد بالتستر، فيعطيه ذلك الوافد القليل ليعمل له غطاء نظامياً ويحمي مخالفاته.

في الكويت رأيت في عام 1980 عندما زرتها للمرة الأولى والأخيرة نظاماً تمنيت تطبيقه عندنا، وهو الجمعيات التعاونية الاستهلاكية وهي عبارة عن سوبر ماركت ومخزن كبير للمواد الغذائية يوجد في كل حارة ـ تقريباً ـ وهو منظم ويبيع بهامش ربح بسيط، ويشترك فيه أصحاب الحي وصغار التجار وله تنظيم ومجلس إدارة ومحاسب.. إلخ وله نتائج باهرة فأولاً أدى إلى خفض الأسعار وتخفيف الزحام، واستفادة الكثير من دخله على قدر مساهمتهم، وإلى تواجد السلع فيه دائماً.. واختصار العمالة في محل واحد بدل المئة المتواجدة لدينا.. وهي ليست لنا!

هذا مثال ـ من دولة جارة وشقيقة، وهناك أمثلة أخرى من (دبي) في سلاسة الإجراءات وسهولة التراخيص وسرعة حسم القضايا والرقابة، ولا يحتاج الأمر إلى دراسات وخبراء ولجان.. أو إلى عبقرية بل يحتاج إلى إرادة وتنظيم ورؤية.

إنني أهيب بالوزراء الثلاثة (العمل والبلديات والتجارة) وكلهم درسوا في الغرب، وبعضهم متخصص في الاقتصاد أن يدرسوا هذا الاقتراح، وأن يعتبروه مشروعاً وطنياً قد يغير وجه الفوضى والاستغلال والزحام والتستر في بلادنا.. ويوقف عنا قدوم الملايين وإرهاق البنية واستهلاك الدخل.

إنني أثق في وطنية وإخلاص ونزاهة هؤلاء الوزراء لعلهم يضعون لنا حلاً يريح الوطن والمواطن من هذا الصداع والعناء المزمن، وأقول في النهاية بأننا لو طبقنا هذا التنظيم الذي طبقته دول متقدمة قبلنا لوفرنا نصف العمالة الموجودة، وأتحنا للمواطن العمل الشريف والمشاركة في خيرات بلاده التي يراها أمامه رأي العين تذهب لغيره، والمصلحة العامة دائماً يجب أن تقدّم على المصالح الشخصية، والرغبات الأنانية، لبناء مواطن صالح وبلد ناجح ـ والله الموفق.