تقول نشرة الأخبار إن أعظم عمالقة القرن الأخير يرقد بين الموت والحياة فاقداً لآخر المؤشرات البيولوجية الحيوية. قبل أكثر من عامين، كتب الزعيم الأسطوري، نيلسون مانديلا، رسالة قصيرة إلى من لا يقرأ من أقطاب الثورة المصرية يقول فيها بالحرف، وفي السطر السادس: "إن الثورة الوليدة تهرم وتشيخ حين تجنح لغرائز الإنسان في الثأر والانتقام، لأن الشعوب ستدفع ثمن الانقسام حين تغيب قيم العفو والتسامح". لاحظوا كيف جمع نيلسون مانديلا في جملة قصيرة بين نقائض (الولادة والشيخوخة). سهرت مساء البارحة على ما صحوت به ضحى هذا اليوم: على روح الثأر وغرائز الإنسان في الانتقام حين يفصل جدار قصير في سجن (طرة) المصري بين حسني مبارك ونجليه وبين خيرت الشاطر ورشاد البيومي وحازم صلاح أبوإسماعيل، سجّان قديم يحتفي بسجانه الجديد في لقطة شاردة ومذهلة.. ومرة أخرى في عالم لا يفك الحرف ولا يقرأ كوارث هذه الغرائزية الكريهة. خطأ أخلاقي يقود للخطأ الذي يليه، وكأن المشهد يقول إن تسعين مليوناً من الشعب لم تستطع إنجاب قائد حقيقي، فما الذي فعله (مانديلا) حين خرج من (طرة) الجنوب أفريقي؟ من أجل مستقبل شعبه (المنقسم) وحده حين صافح الزعيم الأبيض (ديك ليرك) ثم عيّنه نائباً لرئيس الجمهورية. في الذكرى الأولى لتنصيبه زعيماً تناول طعام العشاء على المكشوف مع آخر طواقم سجانيه من (البيض). وفي اللقطة الخيالية الأخرى يقود مراسم الدفن في وفاة أول سجّان أقفل عليه الباب ليبدأ 27 عاماً خلف القضبان في جزيرة معزولة. لم يكن مانديلا بحاجة لوجبة عشاء ولا أيضاً مجبرا لحضور مراسم دفن لجندي أبيض سابق: كان يوجّه رسالة لشعب أخذه من القاع إلى قائمة نادي العشرين، ومن صخب قبائل (الزولو) إلى استضافة كأس العالم، بينما نحن، بالثأر والانتقام، نضيّع حتى اللحظة خمس دول عربية، من العراق إلى مصر حين ينتقم نصف الشعب من نصفه القديم السابق في غياب روح الإنسان الزعيم القائد. نحن بالتفعيل والتفاصيل نسخة كربونية من كتاب (طبائع الاستبداد) لعبدالرحمن الكواكبي. وحين عدت لقراءته هذا الشهر عرفت تماماً كيف نحن أسرى لأوراق تاريخنا الطويل الذي علمنا أدبيات المعارك والغزو والقتل والثأر والانتقام. لم نقرأ رسالة مانديلا مثلما لم يقرأ فصيل أو زعيم كتاب طبائع الاستبداد. أحياناً أغبط بعض الشعوب التي تعيش بلا تاريخ.