مع بداية الشهر الفضيل تعاودنا ذات الأسئلة في كل عام: "ما حكم معجون الأسنان؟" "ما حكم قطرة العين وقطرة الأنف؟" "ما حكم بخاخ الفنتولين؟" "هل يجوز لي أن أتعطر؟" وغيرها من الأسئلة التي لا أقلل من شأنها ولا من أهميتها، ولا أعتب على من يجيب عنها، فمهمته أن يجيب السائل على قدر سؤاله، لكن شيوع هذه الأسئلة وتكرارها على مر الأعوام له دلالة على شيوع ثقافة النزعة الفردية في المجتمع والتركيز على الذات مع إهمال الآخر، والاهتمام بشكل الشعائر وظاهرها في مقابل الاهتمام بفحواها ومقاصدها.

الإسلام في مجمله ـ كما أنه يهتم بالفرد وقيامه بشعائره ـ يهتم بانسجام الجماعة في المجتمع وتحركها كنسيج متناسق مع بعضه بعضا، وهو ما نلمحه في الاهتمام بالعبادات الجماعية، وليس هنالك أجمل من هذا التناغم الذي نراه في ساحة الحرم عند تحرك جموع المصلين بحركة متناغمة متناسقة مع تكبيرة الإمام دون الحاجة لأن يشرف عليهم أحد، لكننا إلا من رحم الله مازلنا نفتقد المفهوم الجمعي للعبادات والأخلاقيات على مستوى حياتنا اليومية، حتى كدنا نفصل تماما بين الدين في المحراب والدين خارجه بشكل يوحي للناظر من الخارج أن لدينا نوعا من الشيزوفرانيا.

من المهم جدا أن يجود الإنسان شعيرته على المستوى الشخصي، بحيث يخشى من نفسه على نفسه أن يفسد صيامه بنظرة أو زلة أو حتى بأن يبتلع ريقه، لكن من المهم جدا ألا نهمل الأبعاد الاجتماعية وما يلزمنا من حقوق للغير، يجدر بنا جدا في هذا الشهر الفضيل أن نلتفت إليها.

كم أتمنى أن أسمع أسئلة أخرى تتكرر على مسامعنا كما تتكرر الأسئلة التي بدأنا المقالة بها، أتمنى أن أسمع سائلا يسأل عن حكم تأخير أو عدم أداء الحقوق لأصحابها وأثر ذلك على صيامه، أن يسأل هل يجرح صيامي أن أصل إلى دوامي متأخرا؟ هل يجرح صيامي أن أغادر مكتبي قبل نهاية الدوام؟ هل يجرح صيامي أن أغادر مكتبي وعليه معاملة لم تنجز بينما كان في مقدوري أن أنجزها؟ هل يجرح صيامي ألا أستقبل المراجع بالشكل اللائق وأن أنجز معاملته كما ينبغي؟ هل يجرح صيامي أن استغل ساعات الدوام في نافلة قراءة القرآن مع إهمال فريضة أداء العمل بإتقان؟ هل يجرح صيامي أن أرمي القاذورات في الطريق؟ هل يجرح صيامي أن أبيع بضاعة مغشوشة أو مقلدة؟ هل يجرح صيامي ألا أعطي الأجير أجره؟ هل يجرح صيامي أن أماطل في أداء الالتزامات؟

إنها أسئلة تدور حول الدور الاجتماعي والالتزام الأخلاقي للإنسان في مجتمعه، ذلك الدور الذي لو أغفله كل منا أو أكثرنا (كما يحدث الآن) لكان مؤشرا خطيرا على تفكك هذا المجتمع وعدم اتجاهه نحو بوصلة واحدة. والمتأمل في حال مجتمعنا يجد هذه النقاط التي أسأل عنها متفشية فيما بيننا، ونجدها للأسف أكثر تفشيا وانتشارا في شهر الصوم الذي كانت الحكمة والغاية منه "لعلكم تتقون"، ففي خمس ساعات هي إجمالي ساعات الدوام اليومي بدلا من الثمان ساعات المقررة في الأيام العادية، المنتظر من الموظف أن يرفع فعالية أدائه بذات النسبة لكي يتلافى أن يكون أحد حلقات تعطيل مصالح الناس، وأحد الأصناف المذكورة في الحديث "أتدرون ما المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طُرح في النار".

إننا في مجتمعاتنا العربية عموما على الرغم من اهتمامنا بالأسرة باعتبارها محضن تكوين الأفراد ونواة المجتمع، واهتمامنا بالأهل والعشيرة، إلا أننا في فكرنا العملي والتعبدي مازلنا ندور في دائرة المصلحة الشخصية لا المصلحة الاجتماعية، والفكر الفردي بدلا من الفكر الجمعي، وفي نظري أن أكثر صعوبة تواجه المسؤولين عن تنظيم وترتيب الناس في الحرم المكي مثلا هو التباين بين الرغبة الفردية في أداء الشعيرة بما يراه الشخص أنسب له، وبين موجبات الترتيب والتنظيم التي يراها المسؤول أنسب وأصلح للمجموع، فترى المصلي يصلي في الممر ويصطف بجانبه آخر فآخر كل يريد أن يكون قريبا من مكان ما، وكل يقول من حقي أن أؤدي شعيرتي بالطريقة التي تناسبني، وما أنا إلا فرد واحد، فتكون النتيجة هي سد الممر وتزاحم المعتمرين والمصلين بسب هذا الفكر الفردي. لو كان تغليب مصلحة المجموع هو الأولى داخل ذواتنا لكفت اللوحات الإرشادية داخل الـحرم لتحديد الوجهات والأماكن دون الحاجة للحواجز والعسكر، وما ينطبق على الحرم ينطبق على غيره من مناحي الحياة، إذ من الممكن أن نجد ذات الشخص الذي يتقن الالتزام بأداء الفرائض، لا مانع لديه من ألا يحترم النظام وأن يهمل في أداء الواجبات، وهو يظن أن ذلك ليس في نطاق العبادة.

إنني أدعو نفسي وأحبتي في هذا الشهر الفضيل أن يكون مسارنا نحو التقوى وتحقيق مقصد "لعلكم تتقون" هو أداء الفرائض، مع الإتقان في العمل واحترام النظام في غيبة الرقيب.