لو أن للقدس فماً ولساناً لأطلقت من أعماق أعماقها ندءاً موجعاً يتردد صداه إلى مختلف أرجاء العالم العربي الإسلامي، ولدعت من حشاشة قلبها أبناء هذه الأمة التي كرّمها الله سبحانه وتعالى بالإسلام إلى النفير العام، والذود عن حاضرها المهدد بأخطار ترى بالعين وتلمس باليد، صباح مساء، من جانب احتلال غاشم، يسابق الزمن في سعيه المحموم لأسرلة أولى القبلتين، وتهويد مسرى النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

كذلك لو كان للقدس ذراعان طويلان لرفعتهما إلى عنان السماء ضراعة لله تعالى، أن يحفظها ومقدساتها وناسها من شرور ما يتهدد حالها من مخططات لئيمة وعدوان ممنهج، ومن عسف وجور، لم يسبق لها أن واجهت مثله سوى في حقبة الغزو الصليبي قبل ألف عام، حين تقاطر دارعون وسابلون وصعاليك من وراء البحار، ليمحوا فيها كل أثر للإسلام والمسلمين.

وليس المقام مقام استدرار العواطف واستمطار الدعاء وحده للقابضين على جمرات الصمود ومكامن الثبات في بيت المقدس، بل هذه ساعة من ساعات العمل الجاد المثابر لإنقاذ القدس من هول ما يحدق بها من مخاطر جسام، يجدر بكل ذي رأي، وبكل صاحب مسؤولية، أن يبادر دون تردد أو تسويف، إلى القيام بما يمليه عليه ضميره الشخصي وواجبه الإسلامي نحو أول قبلة للمسلمين.

ومع أن الهجمة الاحتلالية الاستئصالية على القدس لم تتوقف على مدى نحو ستة وأربعين عاماً غاصة بكل الشواهد العيانية والملموسة على مظاهر تهويد المدينة المقدسة وتغيير هويتها الحضارية ومعالمها العربية الإسلامية الخالدة، إلا أن ما يتعرض له بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس في الأعوام القليلة الماضية، هو الآن أشد خطراً وأوسع نطاقاً وأعمق أثراً مما كان عليه في أي وقت مضى من عمر احتلال جائر يواصل عملاً منهجياً دؤوباً لتغيير وجه القدس وتبديل طابعها التاريخي الموروث. إذ يبدو أنه في غمرة انصراف العواصم العربية والإسلامية المعنية، كل إلى شأنها الخاص، ومع تفاقم أزمات المنطقة وانفجار أزماتها الموضعية في معظم البلدان المجاورة لفلسطين، راحت إسرائيل تمضي بسرعة أكبر، وتسعى بعزم أشد، لاستثمار ما ترى أنه فرصة سانحة، حتى لا نقول فرصة تاريخية قد لا تتكرر، كي تنتهي من تنفيذ كل ما خططت له من أفعال غير شرعية، وتوظيف ما رصدته من أموال طائلة، لاختطاف القدس من بين أيدي أصحابها الشرعيين بصورة كلية، وتحويل أرضها ومعالمها وآثارها وهوية سكانها، إلى مدينة يهودية كاملة.

ومع أن الهجمة الاستيطانية الشرسة تبدو للمراقب عن بعد أنها مجرد واحدة من الأخطار الاعتيادية الداهمة للقدس والمقدسيين، إلا أن صورة الوضع عن كثب تبين أن المدينة المقدسة مهددة اليوم بسلسلة لا حصر لها من عدوان وأفعال منهجية بعيدة المدى، هادفة إلى كسر روح القدس ومصادرة هويتها، متمثلة في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وهدم المنازل، وسحب الهويات، وفرض الضرائب والرسوم والغرامات، ناهيك عن السجن والاعتقال والإبعاد، وتضييق فرص العيش والحياة، وكل ما من شأنه أن يضعف من قدرة أبناء القدس على الصمود ومواصلة التصدي لمخططات الاحتلال.

ولو شئنا أن نقرب الصورة أكثر فأكثر لإخوتنا المسلمين وأشقائنا العرب في كل مكان لما اتسع المجال لشرح ما تعانيه المدينة المقدسة، وما يكابده أبناؤها من مشكلات ومصاعب تشمل كل مناحي الحياة، سواء أكان ذلك في مجال التعليم، أو على صعيد الصحة، أو التجارة والصناعة والسياحة والاقتصاد والأعمال المالية والمصرفية، وغير ذلك الكثير مما يتعلق بأسس البقاء، وأسباب الانزراع في الأرض، ومقومات الصمود والمقاومة، حيث تبدو المعركة غير متكافئة، بين كف يد عارية ومخرز غاصب مدجج بالكراهية والحقد والأطماع والقوة والخرافات.

غير أنه يحسن بنا في غمرة المشهد المقدسي الراعف بالجراح، أن نلقي بعض الضوء على ما يحيق بالمسجد الأقصى وغيره من المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس هذه الأيام، ولا سيما مع تزايد عمليات اقتحام باحات المسجد الأقصى، وتواتر الهجمات من جانب قطعان المستوطنين على ثراه الطهور، تحت سمع قوات الاحتلال وبصرها، بل تحت رعايتها الكاملة، إن لم نقل بفعل تشجيعها لهؤلاء الرعاع، لإرساء سوابق تمهد لقفزة مخطط لها بعناية، تماماً على نحو ما جرى للمسجد الإبراهيمي في الخليل.

وتتجلى خطورة هذه الأفعال الاستفزازية الخبيثة أكثر فأكثر، إذا علمنا أنها تتم في سياق منسق مع عمليات حفر وأنفاق وتنقيب مستمرة منذ زمن تحت أساسات المسجد الأقصى من الجهات الأربع لتعريضه للانهيار، وفي كل ركن من أركان البلدة القديمة داخل الأسوار، وذلك بحثاً عن كل حجر، أو أثر تاريخي ملفق، يمهد لإعادة بناء ما يسمى بهيكل سليمان المزعوم، عندما تتيقن الدولة العبرية أن خطوة هدم المسجد الأقصى، أو تقويض أساساته، لن تلقى رد فعل عربي إسلامي مواز لمثل هذه الفعلة الحمقاء. إذ لم تعد مثل هذه النوايا الإسرائيلية ضرباً من ضروب الخيالات والافتراضات المبالغ بها من جانب كل من يرى بأم عينه ويسمع بملء أذنيه ما تقوم به إسرائيل من أفعال يومية في المدينة المقدسة وفي حاراتها ومحيطها، وما تواصل إرساءه من حقائق ملموسة على الأرض، بما في ذلك التوسع المحموم في ساحة البراق، أو ما تسميه حائط المبكى، ناهيك عن مصادرة العديد من المباني في البلدة القديمة، والاستيلاء على ممتلكات المقدسيين الغائبين، خصوصاً في أراضي حي الشيخ جراح وفي أراضي سلوان وفي القصور الأموية وغيرها من المعالم والآثار المقدسة العربية والإسلامية.