هو الوجه الحقيقي للإنسان المجبول على حب أرضه، تَعِبَ وما يزال، لكن تعبه مقرون بإخلاص وطموح روحه التي لا تهدأ حتى تُصَيّر ذلك التعب ابتسامة شاطئية تقف في استقبال كل قاصد لجزيرة فرسان وإنسانها.

نعم أَحبَّها وسهر على أحلامها، وحَمَل هموم الناس من حوله، وكان يقف بصمت خلف الأفكار والرؤى لصنع الحياة اللائقة بها، مغيبا ذاته، واليوم ليس بمقدور أحد أن يتخيّل فرسان دونه، ولعلّ فرسان هي الأخرى لا يمكنها تخيل نفسها دون ذلك الأب الروحي.

إبراهيم مفتاح هو المفتاح الأصيل لبوابة العبور إلى حضارة وتاريخ وعادات وتقاليد إنسان فرسان، فله منزله المتواضع الذي لم يعد منزلا، بل أضحى مستودعا لهموم فرسان، والتفكير الدائم في مصير العديد من القطع الأثرية النادرة التي باتت تشغل معظم زوايا منزله، وأتذكر هنا قوله "إن الخوف على ضياع هذا التراث الإنساني، هو ما دعاني للبحث والتنقيب عنها وحملها للمنزل، لا لأزينه بها، كلا والله، ولكن خوفا عليها، وحتى أتمكن من أن أسلمها بنفسي للمتحف الذي وُعِدَت فرسان بإنشائه وما زلنا بانتظاره إلى اليوم وللأسف الشديد"!

في وجه هذا الأسمر تشتعل الدنيا كآبة حين يغادر جزيرته، فلا يجد مفرا سوى الشعر الذي طالما آوى إليه. لتدرك أن شاعريته هي نتاج مركب فريد من اللغة الخاصة، والوعي الوجودي الممزوج برغبة الإنسان في التواصل والتأثير فكانت شاعريته خلاّقة بأن تكون عابرةً لمحيط الذات والزمن.

حين يكتب الأديب والشاعر إبراهيم مفتاح عن جزيرته لا بد وأن ترى الوطن حاضرا في بهو قصيدته، تلك القصيدة التي بمقدورها أن تكون نقطة تحول في خلق وتغيير الواقع، وهو ما حدث معه بالفعل، ففي عام 1398 أي قبل 36 عاما حلّ الأمير الراحل نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله- ضيفا على أهالي جزيرة فرسان، ولم يعلم الشاعر إبراهيم مفتاح أن قصيدته التي سيلقيها في تلك المناسبة ستكون نقطة تحول جذري في تاريخ ومستقبل الجزيرة حين قال: "فهل لنا ياسُموَّ الضّيفِ مِنْ أملٍ/ في نظرةٍ نحو مُستشفىً يُدَاوِينا. مريضُنا كم تَلوّى مِنْ تَألمِه/ والحلُّ جيزان، أو موتٌ على المِينَا".. حينها مسح الأمير الجليل نايف بن عبدالعزيز دموعه، ووجه من فوره بإنشاء مستشفى وتوفير عبّارات لنقل الأهالي والمؤن، بعد أن كانت الجزيرة شبه معزولة عن محيطها إلا بما يتوفر من مراكب صغيرة غير آمنة.

ولد إبراهيم مفتاح عام 1359 في حضن جزيرته واشتغل بالتدريس عدة سنوات ليقرر ترك التعليم عندما انتقل للعمل في سكرتارية تحرير مجلة الفيصل في الرياض، وهو الانتقال الذي أدرك فيه حقيقة عدم مقدرته على العيش خارج فرسان، وكأن البعد يُغذِّيه شعور نفسي داخله بالعقوق تجاهها، ليعود مرة أخرى للتعليم حتى تقاعده بفرسان. سجل في تلك الفترة وما بعدها حضورا لافتا من خلال إسهاماته المحلية في الصحافة والإبداع، إلى جانب تمثيله للمملكة في العديد من المحافل الدولية الثقافية.

لهذا الأسمر روحه المفعمة بالبياض والصفاء كصفاء أمواج جزيرته، وله ولَعُه الفريد بالبحر ودانات الصيادين ومواويلهم حين يسير إليه وحيدا بانتظار غائب وحلم جديد.. وما أكثر أحلامه وآماله حتى ليخيل إليك أنه في العشرين من عمره، إلا أن فرسان محظوظة حين وجدت من أبنائها الأنقياء -وهم كثر- هذا الشغف والإخلاص الفريد، لكن إبراهيم مفتاح يظل "دانة فرسان" الأكثر شهرة وأصالة وخلودا. وهو من حظي بإعجاب وتقدير الكثير إزاء جهده وتضحيته وتميزه في العمل العام، إلى جانب مكانته الأدبية كأحد أهم أدباء ومؤرخي منطقة جازان، وكما يحن الناس في فرسان لنخل "القِصَار" وشمسها؛ نحِنُّ لوجه وابتسامة هذا الوطني الأسمر... مفتاح فرسان.