لما توجهت توكل كرمان الناشطة اليمنية الحائزة على جائزة نوبل إلى ميدان رابعة العدوية للمشاركة في المظاهرات المناهضة للحكم العسكري في مصر، كان المصريون المؤيدون يصرخون غضبا محتجين على تدخل شخص غير مصري في سير أحداث مصرية. نفس الغضب تجده موجها نحو رئيس الوزراء التركي أردوغان لمواقفه غير المسبوقة في حدتها نحو شأن سياسي مصري.

في نفس الوقت، كانت هناك تساؤلات كثيرة على "تويتر" وغيره عن سبب اهتمام السعوديين البالغ بتطورات الأحداث في مصر، على رغم أنها قضايا سياسية محلية ومعقدة.

الإجابات على مثل هذه الأسئلة تأتي محملة بالألغام الفكرية، لأن الجمهور يرى أن هذا الاهتمام جزء حقيقي من اهتمامه بالقضايا العربية والإسلامية (أيا كانت وجهة النظر)، ولكن هناك وجه آخر مختلف تماما لهذا الاهتمام.

منذ أن بدأت شبكة الإنترنت بالسيطرة على علاقة الإنسان المتعلم بالمعلومات والأخبار والأفكار، وخاصة لما زادت هذه السيطرة مع تطور نفوذ الشبكات الاجتماعية، لاحظ الباحثون أن هناك نموا سريعا ملحوظا في كل مكان في العالم بالاهتمام بما كان يسمى بالأخبار العالمية، حتى صار من المستحيل طرح هذا المصطلح اليوم مع تداخل الاهتمامات المحلية والدولية في سلة واحدة من اهتمامات الجمهور.

لقد تحول العالم إلى قرية صغيرة، وهذا التحول الضخم جاء معه أن الجميع صار يهتم بأخبار القرية، ليس فقط لمجرد الاهتمام الناتج عن تدفق المعلومات، بل لأننا حقيقة صرنا نتأثر أكثر من أي وقت مضى على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بما يحصل في دول العالم الأخرى.

الثورة الحقيقية التي جاءت بها العولمة وتقنية المعلومات ليست فقط ثورة اتصال بين الشعوب بل أكثر من ذلك؛ نمو هائل على المستوى الاقتصادي والتجاري للعلاقات العابرة بين الدول، إلى درجة أنه في السنوات العشر الأخيرة صار كل حدث سياسي ذا تأثير اقتصادي، وهذا التأثير تتسع دوائره لتشمل شركات العالم بلا استثناء.

هذا التوسع السريع والضخم في الاقتصاد العابر لحدود الدول والتأثر الاقتصادي بمجريات الأحداث، تبعه أيضا تأثر سياسي كبير، وهناك عدد كبير من الكتب والدراسات التي تتحدث عن تغير مفاهيم ووظائف وزارات الخارجية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية حول العالم في السنوات الأخيرة لأن الأنظمة السياسية صارت تتأثر بشكل أوسع وأعمق بأي شيء يحدث في الدول الأخرى في العالم.

كنا في السابق نتساءل عن حقيقة "نظرية المؤامرة"، أي هل صحيح أن إسرائيل والدول الغربية وعلى رأسها أميركا، تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، وبينما كان هذا جدلا في السابق، فإن هذا اليوم صار واقعا، وصار الحديث عن نظرية المؤامرة أمرا من الماضي، لأنه من الثابت بلا تردد أن كل دولة متقدمة في أنظمتها السياسية والاستخباراتية صارت تبذل جهدها و"تلعب أوراقها" في كل حدث سياسي، حسب درجة تأثيره على تلك الدولة.

هناك عدد من الأحداث العالمية التي ترجم فيها هذا الوضع السياسي الجديد، أي التأثير المتصل للشؤون السياسية في دول العالم، وكانت أحداث "الربيع العربي" في مصر وتونس وليبيا وسورية مثالا عليها، فكل الدول تدخلت، وكل الدول تأثرت، ورأى العالم علاقة واضحة بين تصاعد الأحداث في دولة وتصاعدها في دول أخرى. كان هذا قد حصل سابقا في أحداث 11 سبتمبر (الإرهاب)، ولكن ليس بنفس الدرجة من الحدة والسرعة والشمولية والتأثير الشعبي.

هذا التأثير العالمي ترك أيضا بصماته على السيطرة المركزية الأميركية، فتزايد اهتمام معظم الدول بالشأن الدولي سياسيا واستخباراتيا بشكل غير مسبوق تاريخيا، زاد من تعقيد الأمور على الأميركيين كقوة كبرى وحيدة في العالم، وسمح للدول بما فيها الدول التي كانت أقل اهتماما في السابق، بلعب أوراقها وبذل جهدها للتأثير، وتسارع اهتمام الدول ببناء أوراق التأثير (والتي تبرر نمو المساعدات الدولية للدول الأخرى من سنة إلى أخرى)، وكانت الصدمة الأولى للأميركيين في هذا الشأن في قضية سورية حيث وجدوا أنفسهم في مواجهة اهتمام روسي وإيراني بلعب كل أوراقهم، بشكل أربك الأميركيين، وهو ما يؤكد مقولة بعض خبراء السياسة الخارجية في أميركا بأن إدارة أوباما تعيد حاليا صياغة الاستراتيجيات الأميركية الدولية بشكل لم يحصل منذ انتهاء الحرب الباردة، لأن العالم تغير، وعلاقات القوى تتغير سريعا.

الجماهير على الأرض هي أيضا تأثرت بهذا كله، وهذا أمر طبيعي، فالشبكات الاجتماعية حولتها لعناصر فاعلة في أي حدث سياسي، ولذا فاهتمام الجمهور الأميركي بمظاهرات البرازيل بعد أن كان الأميركي لا يعرف ما هي البرازيل، واهتمام العرب بكل صغيرة وكبيرة في الشأن المصري أو السوري أو التونسي بشكل لم يحصل من قبل، هو نتيجة لهذا التواصل العالمي المكثف عبر شبكات الإنترنت.

لذلك، صارت الدول أيضا تهتم بشكل خاص بصورتها الذهنية لدى الشعوب الأخرى، وتبذل في ذلك –في السنوات الثلاث الأخيرة فقط- ميزانيات لم تبذل من قبل، مع التركيز على استخدام الإنترنت بشكل خاص في هذا المجال، وتحول هذا إلى قطاع اسمه "الدبلوماسية العامة" Public Diplomacy، وهناك كتاب جميل لمؤلف أميركي اسمه جورج أوفرتون حول هذا الجانب بعنوان "السياسة الدولية في عصر الاتصالات"Foreign Policy in an interconnected World.

هناك كتب أخرى كثيرة ودراسات تتحدث عن ظاهرة المواطن العالمي وتأثير هذا النمو الخرافي في سرعته على العمل المدني والنشاط السياسي الشعبي وغيره، ومنها دراسة رائعة للاتحاد الأوروبي بعنوان "المواطنون في عصر الاتصالات والاستقطاب"Citizens in an Interconnected and Polycentric World.

حصيلة الحكاية: لا تستغرب لأن السياسة في أي دولة صارت شأن كل الناس، ولا تستغرب لأن كل الدول صارت تتدخل في شؤون بعضها بعضا، وأيضا لا تستغرب إذا تأثر اقتصاد دولة ما بحدث في دول بعيدة عنها تماما، فنحن الآن –أكثر من أي وقت مضى- نعيش في قرية صغيرة!