عندما تظهر مدينة مثل القاهرة، للعالم، وهي تكتسي بسواد الدخان في عز الظهر، فاعلموا أننا لا نحرق أقدم منارة عربية فحسب، بل نكتب بكل البراهين فضيحة وفشل العقل العربي. عقل للتأجير، فكأن هذه الآلاف، بل الملايين من الرؤوس مجرد أسطوانات غاز للبيع. دولة عربية جوهرية تفشل في إدارة ميدانين، ومعتصمو ميدانين يقررون بكل صفاقة تحويل أعظم الأمم إلى نكتة.

عندما تتوشح مدينة مثل القاهرة بهذا السواد المخيف، لا يوجد فريق على حق. القاهرة اليوم هي برهان "العسكر" على ضيق الأفق، مثلما هي برهان "الإخوان" على ضحالة التفكير. كل مشهد القاهرة، أمس، بعد ما يقرب من ثلاثة أعوام على الثورة، ليس إلا كذبة كبرى لهذه الثورة: الثورة هي البنيان، مثلما هي الإنسان، فأين البنيان والإنسان على مشارف اليوم الألف لكذبة هذه الثورة، ونكتة الخريف العربي! ومثلما كتبنا من قبل أن الخطأ الإخواني الفادح كان يكمن في عدم فهمهم أنهم تسلموا حكم أمة منقسمة، لا بد أن نقول للعسكر الجملة نفسها.

كان خطأ مصر الفادح العظيم، هو خطأ نخبها الكبرى بعد كذبة الثورة؛ هو الخطأ الجوهري أن تكون الشوارع والميادين هي مكان السكنى والبديل للبيوت والمصانع والجامعات، وأن تكون شعارات الحناجر الكاذبة في المظاهرت وفي الاعتصامات هي البديل للعمل والإنتاج، مصر هي أول دولة في تاريخ الشعوب تحول الثورة إلى مجرد سجع وطباق وتورية. لم يترك المصريون مفردة في قاموس اللغة العربية إلا ونزلوا بها إلى الشوارع. تقول الإحصائية المضحكة على موقع "الأهرام" إن العدد "التكراري" لمتظاهري كذبة الثورة في عامين ونصف قد يصل إلى 800 مليون "نزلة" إلى الميادين والشوارع؛ هذا يعني أن كل مصري قادر على النزول قد بات في الميادين أكثر من أربعين ليلة. سابقة لم تحدث من قبل في تاريخ شعب، فيما الكارثة أن في النخب العربية والمصرية من يظن أن في هذه المهزلة دلالة ثورية أو إشارة صحيحة. ورسميا كان أمس في مصر هو اليوم الأول من "داحس والغبراء"، ولكن وللأسف ببدائل احتراب عصرية.

الميادين والشوارع لا تخلق مستقبل أمة.