إذا كانت عناصر الدولة، كما تعبر عنها الأدبيات السياسية، هي الإقليم والشعب ومؤسسات الدولة، فإن شرعية مؤسساتها لا تتأكد إلا من خلال قدرتها على حماية السلام الاجتماعي، وتحقيق الأمن، والدفاع عن الاستقلال الوطني، وأن يحظى أداؤها بالرضا من قبل معظم المواطنين، بل إن مؤسسات الدولة ينبغي أن تكون معبرة في حضورها وتمثيلها بوضوح للطبقات والشرائح الاجتماعية كافة، في هذه الدولة.

وإذا ما انطلقنا من هذه المقدمة عن عناصر الدولة، ومصادر شرعيتها، لقراءة التطورات الأخيرة في مصر، فإن ما يواجهنا أننا أمام أول دولة عرفها التاريخ. وحدودها الشمالية والشرقية لها صفة الثبات النسبي، إذ يحميها البحر الأبيض المتوسط من الغرب، والبحر الأحمر من الشرق، ولم تتعرض الصحراء الغربية مع ليبيا لأية مشاكل حدودية.

أما في الحدود الجنوبية، مع السودان، فإن ثقل التاريخ ألقى بظلاله كثيفة على القسمة بين البلدين. فقد كان السودان ومصر يشكلان بلدا واحدا، حتى ما قبل استقلال السودان. وكان للبريطانيين دور أساسي في تقسيم وادي النيل في كل مراحله، بما في ذلك قيام دولة جنوب السودان قبل عدة أعوام.

إذًا عناصر تشكيل الدولة في مصر ثابتة ثبات التاريخ، فأرضها معروفة ومؤسساتها من أعرق المؤسسات، وقد مارس شعبها، أدوارا مهمة وحقق إبداعات كبيرة عبر التاريخ. لكن العناصر الأخرى التي تمنح الشرعية للدولة، بقيت مرتبكة. فقد تتالى اليونان والرومان والأتراك والمماليك والألبان على حكم مصر. ولم تحكم مصر من قبل أهلها إلا بعد 23 يوليو 1952، حين أطاح الجيش بحكم أسرة محمد علي، التي حكمت مصر منذ عام 1805.

لقد ارتبط هذا الانتقال، بتحولات كبرى في المنطقة والعالم. شهد ما أصبح يعرف بالشرق الأوسط، حروبا متعددة رسخت من فكرة الاستقلال الوطني، وكان دور مصر في هذه التحولات مركزيا وكبيرا. وضمن المواجهات التي خاضتها الدولة المصرية، كانت المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين، التي دخلت في صدامات عنيفة مع المؤسسة العسكرية. وقد جرى تجريم وجودها، وحرمت من العمل السياسي في مصر، لأكثر من عقدين. واستعادت دورها لفترة قصيرة، بعد رحيل الرئيس عبدالناصر، وتسلم السادات للحكم، لكن شهر العسل بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين، لم يستمر طويلا. وقد دفع الرئيس السادات حياته، لقاء خلافه معهم.

خلال عهد الرئيس مبارك، لم يتوقف نشاط الإخوان المسلمين، رغم أنه لم يتم التصريح العلني للجماعة بالعمل السياسي، لكن وجودهم على الأرض أصبح أمرا واقعا لا يمكن التنكر له. وفي مناخ الانفتاح السياسي الذي ساد مع تسلم مبارك للحكم، تمكن الإخوان من التوسع، رأسيا وأفقيا مستغلين وضعهم المرتبك كجماعة غير معترف بها، للبقاء في خندق المعارضة؛ لتأكيد صفة المظلومية، التي حكمت تاريخهم السياسي.

بعد 25 يناير عام 2011، وجد الإخوان ضالتهم في الفراغ الأمني والسياسي، وتهرم هياكل الدولة، فحاولوا الهيمنة على المؤسسات الدستورية والتنفيذية والقضائية. تمكنوا من الهيمنة على مجلس الشعب والشورى ورئاسة الجمهورية، وحاولوا تعطيل القضاء.

وفيما يتعلق بموضوع الاستقلال الوطني، يمكن القول إن نصوص معاهدة كامب ديفيد قد وضعت قيودا عليه، حين قيدت حركة ووجود الجيش المصري في شبه جزيرة سيناء. يضاف إلى ذلك، أن توقيع اتفاقية السلام مع الصهاينة، قد ارتبط بانتقال استراتيجي في السياسة المصرية، نتج عنه تحالف عسكري وسياسي مع الولايات المتحدة، مقابل رعايتها لمعاهدة السلام، وتقديم معونة عسكرية لمصر، لأمد بقي مفتوحا.

ومن غير شك، فإن اليد التي تعطي، تفرض قوانين اللعبة. والدفع يأتي في مقابل مواقف وتبعية مكشوفة، وتحالفات عسكرية، ومناورات مشتركة، شكلت عبئا على استقلال مصر الوطني، بسبب تحالف الإدارات الأميركية المتعاقبة مع الكيان الصهيوني، وعدم لجمها لنهجه التوسعي العدواني المستمر بحق الفلسطينيين، والاستيلاء على ممتلكاتهم.

تسلم الإخوان المسلمين للحكم لم يغير على الصعيد السياسي شيئا، ولم يضف إلى موقع مصر. فقد واصل الإخوان النهج السياسي السابق، وأضافوا له هيمنة جماعتهم على مفاصل الدولة والمجتمع، بما يخدش العناصر التي تستمد منها الدولة شرعيتها، وهي قبول الناس ورضاهم بأداء مؤسسات الدولة، وأن الدولة ينبغي أن تكون معبرة في حضورها وتمثيلها بوضوح للطبقات والشرائح الاجتماعية كافة. وجاءت أحداث التخريب في سيناء، وتمكن القاعدة من الاستيلاء على أجزاء كبيرة منها، لتخدش عنصرا شرعيا آخر، هو قدرة الدولة على حماية السلم الاجتماعي وتحقيق الأمن للمواطنين.

التحديات التي تواجه القادة الجدد في مصر كبيرة جدا. فقد ورثوا تركة ثقيلة من أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية. وأضيف لها الآن الانفلات الأمني والتخريب الناجم عن إزاحة الإخوان المسلمين من مواقعهم. وقد أدت حتى الآن إلى مواجهات دامية، كلفت أكثر من ألف قتيل، وأكثر من عشرة آلاف جريح، من العسكريين والمدنيين.

لكن الأمل كبير أن تتجاوز مصر العزيزة محنتها، وأن تتغلب على عناصر الفتنة والتخريب، بالتفاف الشعب المصري حول خارطة الطريق التي عبرت عن توافقات النخب المصرية السياسية، بما في ذلك مشيخة الأزهر والكنسية القبطية، وقادة الأحزاب السياسية، وفعاليات المجتمع المدني.

وفي هذا السياق، سيتذكر المصريون دائما بفخر واعتزاز، كما نتذكر نحن أبناء هذا الوطن الشامخ، مبادرة خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الشجاعة والمعهودة بنصرة مصر، وتقديم كل وسائل الدعم لتنهض أرض الكنانة مجددا على قدميها، وتلعب الدور الرائد المنوط بها. هذا الموقف التاريخي، يضاف له الدعم بالمستشفيات الميدانية؛ كي يلتئم جراح المصريين، قيمته ليست فقط في الدعم الاقتصادي وهو ليس قليلا، ولكن أيضا في الجرأة والشجاعة والإقدام على اختيار الموقف الصحيح، حتى وإن لم يتجانس هذا الموقف مع القوى المهيمنة على الساحة الدولية، لكنه قدر الرجال الكبار، هو اختيار الطريق الصحيح، وإن كان الطريق الأصعب.

حمى الله مصر العربية من كل مكروه.