(عندما نحلم بأننا نرسو

في بلد الأشياء الأخيرة

نلتقط أسماء الشوارع

ونعرف أشخاصا

كثيرين

فنحن

في نهاية الأمر

إنما نختار

ولأننا اخترنا، ندخر اسما ما مثل كنز

عائلي دفين، ليكون سدا في وجه الزمن).

هكذا يلخص (سركون بولص) – الشاعر العراقي الراحل - فلسفته الخاصة في انتقاء الأصدقاء، وأراني أتوقف طويلا إزاء (اختيار) التي نسبها للجماعة هنا. فما هي مسافة الاختيار للأصدقاء، التي وفرتها أو أبقتها لنا نمطية الحياة الراهنة، تلك المفخخة بالأوهام والضلالات والحفر الكثيرة؟ وما أن تنجو بحلمك من حفرة إلا وتجابهك حفرة أشد غلظة وقبحا وشراسة. لم يبق لنا سأم الحياة مساحة للاختيار، فالأصدقاء صاروا يفرضون عليك كنشرة الطقس في تلفزيون رديء، حاملين سرياليتها وشحوبها وتناقضاتها مع ما هو واقع.

صار عليك أن تنتقي أصدقاء لكل وقت، ولكل مزاج، ولكل مكان، ولكل صديق.

ثمّ صديق وحيد شفيف تبثه أحزانك، لأنه مصغ جيد، ولا يجيد ممارسة الأبوة معك، حتى يغمرك بكم من الوصايا والنصائح التي غالبا قد لا تتسق مع الواقع، ولا تناسبك أنت شخصا.

وثمّ صديق تخصه لتلاوة أحلامك في حضرته، لأنه وحده من يملك القدرة على إفاقتك على أرض الواقع وانتشالك من الاستغراق في أحلام قد تكون حتف أنفك وتلقي بك للتهلكة.

ولا تخلو دروب الحياة من صديق تتحاشاه بمجرد استرساله في حديث الضائقات المالية، لأنك جربت النهايات البائسة معه التي تقضي على آخر ما تبقى من مرتبك، وبالمقابل يندر أن تجد ذلك الصديق الذي يقرأ الحيرة في عينيك، وينقذك منها دون أن تنبس بها.

أما أغرب الأصدقاء فهو ذلك الذي تشتاق إليه كثيرا، لتمارسا الصمت معا. تشربان شايا مطهما بالنعناع تارة، وتارة بالحبق أو الـ"دوش"، أو "ورد مديني كذاب"، وأحيانا يكسر الرتابة بصنع "كركديه"، وإن كان مكيا سماه "كوجراتي" وأعلمك أنه جيد للدم ولشرايين القلب، ثم يلوذ بصمت شاهق تعوزه بين الفينة والأخرى، هربا من ثرثرات لا معنى لها، يضج بها الكون، في الزمن القبيح.

موقع "فيسبوك" يبث بين حين وآخر رسالة ظريفة ملخصها "عثر فلان على أصدقاء عبر البحث، لم لا تبحثين عن أصدقائك؟".

وتلك مفسدة من سمات العصر البلاستيكي، المنذور لعزلة الأفراد، وتقصي ما هو حميمي وصادق وحقيقي.

تنكبوا مشقة البحث عن أصدقاء في زمن بات فيه أعز الأصدقاء همو الصامتون، أو من يجبروننا على استعادة جماليات الصمت وهيبته، والانتباه لقبحيات الكلام والهذر والثرثرة.