لأن الوعي العام في الشارع العربي لا يزال في مراحل بسيطة وغير معقدة فهو غالبا ما يقتنع سريعا بالتقسيمات الظاهرة دون قدرة على الخوض في التفاصيل أو التفكير بعمق، لذلك من السهل إقناعه مثلا بأن "الإخوان المسلمون" هم أولئك المسلمون الطيبون الذين لم يأخذوا فرصتهم والذين تم الهجوم عليهم ليلا والإطاحة بهم، وهم الآن في خانة المسلم الطيب المظلوم.

هذا التصنيف وحده كاف لجلب مزيد من التعاطف في أوساط العوام، العوام هنا توصيف لا تصنيف يعكس مستوى معينا من الوعي العام القائم على التقليد والإيمان بأن المعارضة والرفض هما اللذان يمثلان موقفا بينما الموافقة مثلا لا تعكس موقفا، الرفض عملية نفسية جاذبة لكثير ممن لا رأي لهم: الرفض فعل وإجراء وامتناع وبالتالي فهو أكثر إمتاعا وتعبيرا عن الذات، وهو ما يتم بشكل أكثر كثافة حين ترتبط القضية ببعد ديني، وكثير من العوام لا يفرقون بين دفاعهم عن الإسلام، ودفاعهم عن الإسلام السياسي، بل لا يفرقون في نظرتهم للجماعات والأحزاب بين ما هو ديني خالص، وبين من يستخدم الدين شعارا لتحقيق مكاسب سياسية.

التأثير الذي أحدثه تويتر مثلا أنه حول كثيرا من القضايا التي كانت قضايا نخبوية إلى قضايا رأي عام، يشارك فيها الجميع ويتحدثون عنها ويبرزون مواقفهم تجاهها، ترى ما المنطلق الفكري الذي سيتناولون من خلاله هذه القضايا؟ في الواقع هو منطلقهم العادي العامي القائم على وعي جمعي لا مكان فيه للأفكار ولا التحليل بل الاتباع والتقليد واتخاذ المواقف الجاهزة المعلبة، وترديدها باستمرار، هذا واقع جيد وجديد على مستوى توسيع رقعة المشاركة ولكنه محبط على المستوى الثقافي؛ حين ندرك أن التأثير الناجم عن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة يتمثل في كونها مجرد وسيلة جديدة متطورة تعكس وعيا جديدا وغير متطور.

هل لهذا الجمهور العام سلطة أو تأثير؟ نعم إنما على مستوى تلك الوسائل وفي داخلها بمعنى أنه يمكن أن تكون نجما مقبولا في تويتر مثلا لكن تأثيرك الحقيقي في الحياة العامة الواقعية لا يمثل شيئا، والعكس ممكن كذلك، فقد تكون هناك شخصية مؤثرة وفاعلة في الواقع بينما هي لا تحظى بتلك النجومية في تويتر، الذين يحظون بالنجومية على المستويين الواقعي والافتراضي -غالبا- هم تلك الشخصيات التي أخذت مكانا قبل تويتر، مثلا بعض الوعاظ والدعاة أو حتى بعض الفنانين، فتحول تويتر بالنسبة لهم إلى مجرد صفحة لأرشفة نجوميتهم بدليل أن ما يطرحونه من تغريدات لا تحمل أية إضافة نوعية، ويتحول تويتر بالنسبة لهم إلى منصة للإعلان عن برامجهم ومحاضراتهم أي أنها وسيلة يتم فيها تجيير الافتراضي لخدمة الواقعي.

هل من المبالغة القول بأن بعض من يحسبون حساب ذلك الجمهور غير الواقعي يمكن أن تتغير مواقفهم تبعا لسلطة وتأثير ذلك الجمهور؟ في الواقع نعم هناك شيء ما يحدث من ذلك، لكن من يخضعون لذلك التأثير هم في الواقع من الشخصيات التي لا تحظى بقبول مطلق لدى الجمهور العامي التقليدي، ولأنهم يدركون أن جماهيريتهم مشروطة فهم يتجهون لإبداء مواقف – خاصة في الأحداث الكبرى – تجعلهم في منأى عن الهجمات الإلكترونية شديدة السطوة حتى لو تعارض ذلك مع رؤيتهم العلمية والفكرية، ليقدموا مواقف عامة وباهتة ومثالية تصاغ غالبا في جمل مثل: أنا لست مع كذا ولكني لا أوافق على الطريقة التي تم التعامل بها معهم، أنا لست إخوانيا ولكن فض الاعتصام بتلك الطريقة غير مقبول، وليبدأ الإلحاح على مفردات وجمل غاية في المثالية والتعلق المصطنع غالبا.

التأثير الذي يتركه جمهور تويتر شمل حتى بعضا من الشخصيات الثقافية التي كانت فيما قبل تويتر أكثر وضوحا وصراحة في طرح مواقفها، ولذلك يقع بعضهم في ازدواجية بين ما يكتبه في الصحافة ويقوله في المحاضرات، وبين ما يكتبه من تغريدات في تويتر.

الواقع يؤكد أن مثل هذه الظواهر تختفي بعد حين من الدهر، فالوسائل الجديدة غالبا ما تسهم في تقديم جمهور جديد له سطوته وتأثيره إلا أن التجارب أيضا تؤكد بأنها سلطة افتراضية وليست واقعية، فقط دعك من ترديد عبارات أصبحت بالية وباهتة مثل: إن "فيسبوك" قد حركت الثورات في الشارع العربي، هذا عنوان إعلامي جاذب ولكنه غير حقيقي، وحين أرادت حركة تمرد ثورة ثانية اتجهت للعمل الواقعي وملأ الاستمارات في الشارع وليس عبر الهاشتاقات.