أسكن في شمال الرياض منذ عامين تقريبا، وعندما سكنت في منزلي كانت شوارع الحي مرتبة ومنظمة بدون أي حفريات أو مطبات تقريبا، فجأة بدأنا نعاني من الحفريات للمرة الأولى، وبعد فترة قصيرة تم الانتهاء من المشروع الذي لا أدري لأي جهة يتبع، لم نلبث سوى قليل حتى بدأت حفريات أخرى فثالثة ورابعة، وأعتقد أن الحفريات القائمة الآن هي المرة الخامسة التي نواجه فيها هذا الأمر.

طبعا شوارع الحي أصبحت كلها كأنك تسير على درب صخري غير معبد بسبب كثرة الحفريات غير المنسقة وبسبب سوء الردم وإعادة السفلتة في المنطقة، فما تكاد تتجاوز مخلفات إحدى الحفريات حتى تسقط في أخرى وقد اضطررت لتغيير مساعدات سيارتي بسبب هذا الوضع.

لا أظن أنني الوحيد الذي يعاني من هذا الأمر الذي أصبح شبه اعتيادي في مدننا في المملكة، إذ لا تكاد جهة ما تنهي مشروعها حتى تبدأ أخرى مشروعها اللاحق لها في ذات المنطقة لتعيد القصة من جديد، وليس موضوعي هو الحفريات ذاتها، بل موضوعي هو سوء التنسيق بين هذه الجهات بحيث تكون أعمالها عبارة عن سلاسل متلاحقة من المعاناة لسكان الأحياء، ولينتج عن عدم التنسيق هذا من التأخير والتكرار والتكاليف في الأعمال ما الله به عليم. لو تخيلنا للحظة أن هذه الجهات تعمل بشكل منسق فإن المشاريع كلها سيتم حفرها وردمها مرة واحدة بدلا من أربع أو خمس مرات، وبالتالي سنوفر ثلاثة أرباع مصاريف الحفر والدفن وإعادة السفلتة، سيكون عدد الحفر أقل بكثير مما هو عليه الحال حاليا، قد تطول فترة مكوث الحفرة مرة واحدة لتنسيق العمل، لكن في آخر المطاف سيكون إجمالي المدة أقل، سيكون لدينا القدرة لأن نتوقع حالة أحيائنا بعد انتهاء المشروع، وأننا لن نحتاج لأن نواجه أزمة حفر أخرى، وسيكون وضع الشوارع الداخلية في هذه الأحياء أفضل بكثير مما عليه الحال الآن.

هذه الحفريات ما هي إلا نموذج ملموس لسوء التنسيق بين الجهات الحكومية على مختلف المستويات، ولو تسنى لنا أن نرى شكل الإجراءات والعلاقات بين الجهات الحكومية لدينا في المملكة، لما كان لها صورة أفضل من صورة تلك الحفريات المتكررة والشوارع غير المعبدة والتذمر والاحتقان الناتجين لدى الجمهور بسببها.

ما زالت كل وزارة لدينا تعمل بعقلية الاستقلال وعدم الارتباط بالجهات الأخرى، إلا في القليل من المواضيع ذات الطابع الإنهائي غالبا، ما زالت كل وزارة تظن أن التنسيق أو التنازل عن دور معين لجهة أو وزارة أخرى هو نوع من التدخل في اختصاصها، وسحب صلاحياتها فتجد أن مندوب تلك الوزارة ينافح ويدافع عن وزارته وكأنها إحدى معارك التحرير، ليكون الموعد هو الموعد الذي يحدده هو لا الجهة الأخرى ولو كانت النتيجة تكرار العمل وارتفاع التكاليف والمصاريف على عاتق الدولة.

وزارة المالية يقع على عاتقها الجزء الأكبر من اللوم في هذا الباب، إذ ما زالت عقلية اعتماد المشاريع ومصروفاتها هي ذات العقلية التي كانت عليها منذ ثلاثين عاما وقد تطور العالم منذ ذلك الحين مرات ومرات (حتى مع تعديل نظام تأمين المشتريات الحكومية)، ما زالت كل جهة ترفع مشاريعها للاعتماد بشكل مستقل، وتحصل على الاعتماد بشكل مستقل، حتى ولو كان المشروع في شارع واحد كما يحدث في عالم الحفريات، ما زالت كل جهة إذا لم تصرف كامل ميزانيتها تخشى أن يكون اعتماد ميزانيتها في آخر العام أقل بسبب المبلغ الذي وفرته، ليبدأ عالم المناقلات والمصاريف على المشاريع الإضافية والمكررة (إعادة الحفر والردم والسفلتة) لتتأكد كل جهة أنها صرفت آخر هللة من ميزانيتها المعتمدة.

الأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى في هذا الباب، ولكنني سأشير فقط لغياب التنسيق بين وزارتي العمل والتجارة في الفترة الأخيرة بشأن قرارات السعودة والتأنيث، فمن ينظر للواقع يعلم يقينا أن وزارة العمل تنفرد بقراراتها دون وزارة التجارة في هذا الباب، وإن كان هنالك تنسيق فبكل تأكيد أنه تنسيق دون المستوى المطلوب، فكيف تمنح التجارة سجلا لمحل وبعد فترة يجد هذا المحل نفسه في مواجهة فرض التأنيث، وكيف تطلب وزارة العمل من هذه المحلات التأنيث دون أن ترتب مع وزارة التجارة ما يناسب توجهاتها بشأن حماية المستهلك وخدمات ما بعد البيع، فالبائعات في هذه المحال لم يتم تدريبهن بالمستوى المطلوب على تقديم الخدمات بالشكل والمستوى المطلوبين.

المطلوب من وزرائنا ووزاراتهم أن يتعاملوا مع موضوع التنسيق فيما بينهم على أنه أحد أهم أولوياتهم، وأن يشمل ذلك بالدرجة الأولى التعاميم والسياسات واللوائح الداخلية لديهم بحيث يزيلوا ما فيها من تعارض وتداخل وتباين يجعل المراجع في "حيص بيص".