نعم من الخطأ الحكم على تجربة جديدة بناءً على تجارب آخرى سابقة، لكن أن تسير في نفس اتجاه من سبقوك فأنت بالتأكيد سوف تصل إلى النتيجة ذاتها في النهاية، وهذا بالضبط ما يحدث حالياً في مدينة "الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة". حيث تسير آلية العمل "البطيئة" في هذه المدينة، التي نعوّل عليها كثيراً، بنفس الطريقة التي أنشئت فيها الهيئات والمؤسسات الحكومية شبه المستقلة خلال السنوات الماضية، فضلاً عن قيامهما بدورين اثنين متضادين في آن واحد، وهي أن تكون جهة تنظيمية، لصناعات الطاقة بالمملكة، فضلاً عن كونها جهة تنفيذية لنفس الصناعات، كما هي الحال في بعض الدول، حيث أفصحت المدينة عن: نيّتها تأسيس شركات تدار بأسلوب تجاري، تهدف إلى امتلاك وإداراة المفاعلات الذرية ووسائل الطاقة البديلة الأخرى، ومنها "شركة الطاقة النووية القابضة" وأخرى لـ "الطاقة المتجددة". وفي ذلك "تعارض مصالح" واضحٌ جداً، الأمر الذي سوف يؤثر بشكل سلبي عن تنافسية سوق الطاقة بالمملكة، ويجعلنا نتساءل عن مدى جدّية تطبيق المعايير الصارمة لـ "الأمن والسلامة" في المفاعلات الذرية التابعة للمدينة، الأمر الذي يمكن حلّه بواسطة إنشاء هيئة رقابية مستقلة للطاقة الذرية.

الأسوأ من ذلك هو الوقوع في نفس الأخطاء السابقة للهيئات الحكومية المنشأة حديثاً، وأشهرها تأخير اعتماد "الهيكل الإداري" للمنشأة، وما يتبع ذلك من غياب سلم الرواتب والتعويضات، الأمر الذي يمكن التغاضي عنه خلال العام الأول من التأسيس، أما استمرار هذا الوضع الهلامي لسنوات قادمة، فسوف يؤدي بالضرورة إلى بروز الفروقات المادية غير المبررة بين منسوبي المدينة، ثم في نهاية الأمر، إلى التسرب الوظيفي للكفاءات الحقيقية، وليست الكفاءات المدعومة من الداخل، ناهيك عن تأخر إطلاق برنامج الابتعاث للتخصصات العلمية التي تحتاجها المدينة، خصوصاً مع ندرة المتخصصين من المواطنين في مجالات عمل المدينة، وهي بالمناسبة كثيرة ومتشعّبة، لذا فهي بحاجة إلى برنامج ضخم وطموح للابتعاث، مع التأكيد على أن تعقد المدينة اتفاقات مباشرة مع الجامعات المتميزة، بدلاً من إلقاء مهمة البناء العلمي للموظفين، على عاتقهم فقط، دون أي إرشاد علمي يحقق مصالح المدينة والوطن أولاً.

أما العائق الآخر فهو ترّكز المناصب القيادية في المدينة للأكاديميين، الذين يفتقد أغلبهم الخبرة الحقيقية، سواء في القطاع العام أو الخاص، لذا تنتقل نفس العقلية الإدارية "التنظيرّية" من الجامعة أو مراكز البحوث إلى مدينة "ديناميكية" تقوم بتنظيم وإدارة وتشغيل مصادر متنوعة من الطاقات البديلة، فتحدث فجوة تطبيقية تأخذ بالاتساع بين الخطط غير القابلة للتنفيذ، والواقع الحقيقي على الأرض. نعم نحن بحاجة إلى أكاديميين وعلماء في الشؤون العلمية والأبحاث في المدينة، ولكن ليس في المناصب القيادية التنفيذية، فتلك تحتاج خبرة عملية ومهارات إدارية لها أهلها.

كما أن العلاقة المضطربة بين "المدينة" و"أرامكو" السعودية، تعتبر إحدى التحديات الكبيرة التي تعترض مسيرة المدينة، حيث من المعلوم إن "أرامكو" في الوقت الحالي تتطلع لأدوار أكبر من صناعة النفط ومشتقاته، وخصوصاً في مجالات "الطاقة المستدامة"، وهو ما يتقاطع بشدة مع مهام ومسؤوليات المدينة. فضلاً عن استمرار "أرامكو" ووزارة البترول والثروة المعدنية في قيادة فريق "كفاءة الطاقة" على المستوى الوطني، وهو المركز الذي أنشئ في البداية تحت مظلة مدينة "الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية"، وأنجز العديد من الأدلة الإرشادية والدورات التدريبية، ولكن يفترض أن تتولى المدينة الإشراف على المركز الآن، كونها معنيّة بشؤون الطاقة، وخصوصاً ما يعمل على توفير "الهدر" في الطاقة المستهلكة حالياً، التي وصلت مؤخراً إلى أرقام فلكية.

من جهة أخرى يشير تأخر إقرار الخطة الوطنية للطاقة المتجددة بكافة أشكالها، إلى وجود العديد من الاعتراضات والملاحظات من جهات حكومية أخرى، تتقاطع مهامها مع عمل المدينة، رغم أن معالي رئيس المدينة سبق أن أعلن عن قرب إقرار الخطة منذ مدة تتجاوز العامين، ولكن يبدو أن فريق المدينة لم يقم بأي خطوة تجاه تلكم الملاحظات، وأهم تلك الخطوات هي زيارة تلك الجهات وفهم اعتراضاتهم، ومحاولة حلها أو إيجاد حلول وسط، خصوصاً أن عامل الوقت يضغط بتأخر إقرارها، وبالتالي سوف يؤثر على الجدول الزمني، لسد فجوة الطاقة بالمملكة، غير أن عدم إقرار الخطة لم يمنع المدينة من توقيع عدة عقود استشارية ضخمة مع مؤسسات دولية في مجال تطوير الاستخدام السلمي للطاقة الذرية، لا سيما في إنتاج "الطاقة الكهربائية" و"تحلية المياة"، وتأهيل القوى البشرية في هذا المجال، دون إغفال تطوير تطبيقات "الطاقة الذرية" في "العلوم الزراعية" و"الصيدلانية" و"علوم الأرض" وغيرها.

إن استهلاك المملكة المتنامي والضخم لمشتقات النفط، الذي يتوقع أن يتجاوز 7 ملايين برميل نفط يومياً خلال السنوات القادمة، خصوصاً مع التوسع في إنتاج الطاقة الكهربائية، والخوف من نضوب النفط، يجعلنا نتوقع الكثير من مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة، ولكن بعد أن تعيد صياغة أسلوبها الإداري الحالي، وأن تعتمد هيكلا إدراياً وسلماً وظيفياً جاذباً للكفاءات الوطنية، وأن ترّكز على استقطاب الكفاءات السعودية الشابة من ذوي الخبرة في القطاع الخاص، مع الحرص على البناء التراكمي للكوادر الفنية السعودية من أبناء المدينة، بواسطة التركيز على التعليم والابتكار والتدريب والبحث والتطوير، فنحن هنا نتحدث عن مفاعل ذري وليس متجر بقالة صغير.