توجد في الجهات الحكومية تجمعات غير رسمية يطلق عليها في العرف الإداري مصطلح "الشللية" أو مصطلح "المافيا" في بعض الأحيان إذا كانت تتعلق بالإدارة العليا في الجهة الحكومية، وهذه التجمعات تشكل مراكز قوى فعلية مميزة عن مراكز القوى الرسمية.
فإذا كان التنظيم الرسمي والتقليدي للجهة يتعلق بالهيكل والتنظيم الإداري، وتحديد الأهداف والمهام، وتوزيع الصلاحيات والمسؤوليات، وفق الأنظمة واللوائح، فإن التنظيم غير الرسمي ينشأ بصلاحيات ومسؤوليات غير قانونية تتعارض مع معايير التنظيم الرسمي، كنتيجة لطبيعة البشر في رغبتهم بالشعور بالانتماء والأمن والحماية الخاصة إذا ما وقع خطأ فيتم تصحيحه دون الإبلاغ عنه.
والتنظيمات غير الرسمية لا تنشأ فقط بين الموظفين والمرؤوسين في الإدارة التنفيذية، وإنما نجدها أيضاً بين الرؤساء والمديرين في الإدارة العليا للجهة الحكومية مما ينتج عنه صراع داخلي وفوضى وتصادم بين الموظفين، وهو مناخ مناسب وبيئة خصبة لظهور ونمو الفساد الإداري والمالي في الجهة الحكومية.
وللأسف، فإن هذا الموضوع لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث في واقع الأجهزة الحكومية، بالرغم من أن علماء الإدارة قد تناولوه نظرياً في كثير من مؤلفاتهم وكتبهم، وفي رأيي أن التنظيمات غير الرسمية تمثل أحد الأسباب الرئيسية في وجود ظاهرة الفساد وسوء الخدمات العامة وتعطيل تحقيق أهداف خطط التنمية الوطنية، كما تمثل أحد العوائق الرئيسية في جهود مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة.
ومن ذلك على سبيل المثال، نجد في بعض الجهات الحكومية نشوء جماعات وتكتلات لرفض التغيير والتطوير في الإجراءات أو السياسات أو استخدام التقنيات الحديثة بهدف الحفاظ على مصالحها وهيبتها ومناصبها في العمل، كما أن البعض يعمد إلى افتعال المشاكل مع الإدارة وبث روح التمرد والإحباط داخل الجهة، بالإضافة إلى بث الشائعات والدعاية السيئة عن الجهة واتهامها بالفساد.
وهناك أيضاً من المديرين والرؤساء من يعمد إلى هدم التنظيم الرسمي داخل الجهة بهدف دعم سلطاته الإدارية ومصالحه الشخصية، من خلال خلق "شلل" وأحزاب داخل إدارته ترتبط به مباشرة انطلاقاً من مبدأ (فرق تسد) ليتمكن من فرض نفسه على الموظفين والقدرة على التلاعب بمقدرات الجهة، والتلاعب بالأنظمة واللوائح، فبدلاً من أن تكون الجهة موجهة بالأنظمة والقوانين، تكون موجهة بالفرد (المدير الإداري أو الرئيس).
بالإضافة إلى ما سبق، هناك من المجموعات غير الرسمية التي تتكون داخل الجهة الحكومية، تظهر فيها قيادات غير رسمية تمثل أعضاء هذه المجموعات وتتحدث باسمهم، وتقوم هذه القيادات بتوجيه الموظفين إلى معارضة قرارات الإدارة وعدم تنفيذها، وليس هذا فحسب بل تعمد هذه القيادات إلى إحراج الإدارة بافتعال أخطاء تقع مسؤوليتها على عاتق الإدارة، كما أن أعضاء هذه المجموعات يتعاونون فيما بينهم للتغطية على أخطائهم، ويستخدمون الاتصالات غير الرسمية عن طريق نشر الشائعات لتوجيه نظر الإدارة إلى مطالبهم.
وفي ظل وجود مثل هذه البيئة في جو العمل، تتصادم هذه "الشلل" فيما بينها (شلل الموظفين وشلل المدير أو الرئيس)، والكل يحاول أن يحفر لأخيه، من خلال تصيد الأخطاء أو الاتهام بالفساد، وهناك من يستغل مثل هذه البيئة في الإطاحة بمسؤول تنفيذي آخر، لإزاحته من منصبه، وهذا نوع من الصراع الخفي بين المسؤولين الكبار في تلك الجهات من خلال استغلال وجود مثل هذه الأحزاب.
وكما رأينا آنفاً، فإن تنامي التنظيمات غير الرسمية قد يقوّض جهود التطوير والعملية الإنتاجية برمتها، ناهيك عن تنامي الفساد في الجهات الحكومية والمتمثل في عدم القدرة على التحكم في ضوابط العمل وعدم القدرة على تحقيق الأهداف من خلال تغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة، وانتشار المحسوبيات وتعطيل مصالح المواطنين.
بالطبع هناك عوامل عديدة تسهم في تنامي التنظيمات غير الرسمية، لعل من أهمها هي جذور التسلط المزروعة في داخلنا، فغالبية أفراد المجتمع قد تربى على السلطة الأبوية التي لا تخطئ أبداً في البيت، وسلطة رجل الدين في المسجد، وسلطة المعلم والمدير في المدرسة، وسلطة الدكتور في الجامعة، وما نراه في الجهات الحكومية هو انعكاس طبيعي لهذه الجذور، بالإضافة إلى وجود فئة أخرى من المجتمع قد تربت على المشاركة والنقد وإبداء الرأي.
وقد اعتاد الموظف الحكومي التقليدي على أن تقوم الإدارة العليا بالتفكير وإصدار الأوامر، ويقوم هو بالتنفيذ، فهو قد عاش وتربى على القمع والحرمان، فما أن يتولى منصباً قيادياً، يتوقع من مرؤوسيه الانصياع التام له، فلا يسمح لهم بالمشاركة ولا لإبداء آرائهم أو انتقاداتهم، لذا يحاول إقصاء من يشكو أو يعترض ويقرّب من يطيع ويتملق له، وبنفس السلوك يتملق هذا المدير لمن هو أعلى منصباً منه، لذا يلجأ إلى خلق تنظيمات غير رسمية من خلال موظفين خانعين ينساقون أمامه سمعاً وطاعة، وفي ظل هذا السلوك الإداري تضيع الحقوق وتزداد المظالم بسبب ذهاب الحوافز والامتيازات إلى غير المستحقين. وإزاء هذا الوضع، فإن على الموظفين أن يسمعوا ويطيعوا ولا يناقشوا أو يستفسروا، ومن يتجرأ منهم على إبداء رأيه، اتهم من قبل المدير بأنه لا يفهم وغير جدي ومستهتر، وغير جدير بتحمل المسؤولية، من هنا تنشأ تنظيمات غير رسمية أخرى معارضة للإدارة، ومن الطبيعي من يستغل مثل هذا الوضع في تصفية الحسابات مع الآخرين.
تلك هي مشكلة "الشللية" في العمل الحكومي، والحلول المطروحة في حل هذه القضية قد تكون نظرية وغير عملية، لأنها تتعلق بتغيير النمط التقليدي للإدارة برمته والتحول من أسلوب الإدارة بالتهديد والتخويف إلى الإدارة بالمشاركة وتحقيق الأهداف واحترام الآخر، ومع ذلك يمكن القول بأن تعزيز الشفافية والمساءلة ونشر الثقافة الحقوقية للموظفين قد تقلل من التأثيرات السلبية للتنظيمات غير الرسمية.