-1-

لم يُكثر الشعراء العرب على مرِّ التاريخ من موضوع في شعرهم، بقدر ما أكثروا في موضوع الحرب. فقد احتلت الحرب قبل الإسلام وبعده، المكانة الكبرى في الشعر السياسي العربي. وكان ذلك لظروف سياسية وثقافية كثيرة ومختلفة في تاريخ الأمة العربية. فبناء الإمبراطورية العربية في صدر الإسلام، وفي العصرين الأموي والعباسي، كان يحتاج إلى إعلام نافذ، ومؤثر، ومُحفِّز. وكان الشاعر في هذه العصور، بمثابة وزير الإعلام اليوم، الذي كانت تقوم على عاتقه مهمة إصدار بيانات الحرب وسيرها شعرياً، وبثِّ الروح المعنوية في صفوف المقاتلين، ومدح القادة العسكريين، وذم الأعداء، وهو ما يقوم به الإعلام العربي بمجمله في هذه الأيام، وفي الوقائع الحربية السابقة في العصر الحديث.

-2-

وكما أن المراسلين الإعلاميين في هذه الأيام، ينتشرون في مواقع مختلفة من ميادين "الربيع العربي"، فقد كان الشعراء في عصور العرب السالفة لا يكتفون بنظم القصائد الحربية، أو ما يُسمّى بشعر "الحماسة" من وراء ستائر بيوتهم، أو من خلال ما يرد إليهم من أخبار الطعان، أو من خلال ما يُمليه عليهم قادة هذه الحروب، ولكنهم كانوا يشتركون في هذه الحروب اشتراكاً فعلياً، حالهم كحال المراسلين الحربيين في هذه الأيام. بل إن بعض الشعراء العظام الذين خلّفوا لنا دواوين "الحماسة" كانوا يحاربون جنباً إلى جنب مع القادة العسكريين. فقد كان أبو الطيب المتنبي – مثلاً - فارساً من الفرسان، حتى إن طمعه في هذه الفروسية، قضى على حياته أخيراً. وكان المتنبي يحارب مع أبي فراس الحمداني جنباً إلى جنب في معركة "خرشنة"، وغزوة "القفزة"، ومعركة "الحدث الحمراء" وغيرها من المعارك، مما أكسب شعره الصدقية الفنية الكبرى، كما أكسب هذا الشعر الخلود فيما بعد.

وكان الشاعر الأخطل – مثلاً - قبله في العصر الأموي فارساً ومحارباً عظيماً، اشترك في عدة حروب منها "يوم الثرثار" المشهور. وكان جرير والفرزدق في العصر الأموي من الفرسان المحاربين أيضاً. وفي العصر العباسي، كان أبو تمام في ساحة المعركة إلى جانب الخليفة المعتصم في "فتح عمورية". وهو الذي وصف حصار "عمورية" كأبدع ما يكون الوصف، وفاق في وصفها أبرز المؤرخين المتخصصين.

كما أن البحتري رافق القادة العرب في العصر العباسي في حروبهم مع الروم وأهمها "حروب الثغور"، واشترك في هذه الحروب كأي فارس آخر. ومن هنا جاءت قصائده الحماسية الحربية صادقة كأكثر ما يكون الصدق، وغنية كأكبر ما يكون الغنى الفني.

-3-

وإذا أراد الشعراء العرب اليوم، أن يضمنوا لشعرهم الصدقية الموضوعية والفنية الراقية، وأن يضمنوا لشعرهم في "الربيع العربي" الخلود، فعليهم أن يذهبوا إلى أرض المعركة هناك، لكي يقولوا لنا في النهاية شعر "الحماسة" الذي يليق بمواقع كهذه، والذي سيتمتع بصدقية عالية. ولا يكتفوا بأن يراقبوا المعارك من خلال شاشات التلفزيون، وقراءة الصحف، والاستماع إلى البيانات العسكرية والمؤتمرات الإعلامية، والنظر إلى المعركة من خلال ستائر (الماركيزت)، وكأن الشاعر العربي أصبح كنباتات الظل، لا يعيش إلا خلف الستائر، ويكتب وهو بعيد كل البعد عن أرض الواقع. وهذا ما دفع شاعراً عراقياً كبيراً لينشر في حرب الخليج الثالثة 2003، قصيدة قديمة جداً له بعنوان (مصطفى) تتحدث عن شهيد دُفن في البصرة، وحيث يقيم هذا الشاعر في لندن، والمعارك تشتعل بعيداً عنه، وحيث لم يجد ما يقوله الآن من شعر جديد طازج وحي.

-4-

أطلق النقاد العرب الأقدمون على شعر الحروب "شعر الحماسة". وكان للحماسة معناها الحربي، الذي يعني الشجاعة، والبأس، والضرب، والطعان، والمقاومة. وحيث لا يوجد كائن على الأرض يُنازع في بقائه، إلا وقابل هذه المنازعة بالمقاومة.

وقد درج النقاد في عصر النهضة العربية على هذا المنهاج، فوضع الناقد سيّد علي المرصفي كتابه "أسرار الحماسة" الذي تحدث فيه عن المميزات الفنية لشعر الحرب في أدب العرب. وكان لهذه التسمية، فضل في تمييز شعر الحرب الخالص عن شعر السياسة، الذي كثيراً ما كان يختلط بشعر الحرب، ويتداخل معه تداخلاً موضوعياً وفنياً ظاهراً. حيث كان كل شعر حماسي شعراً سياسياً، ولكن ليس كل شعر سياسي شعراً حماسياً!

-5-

إن أول قصيدة أنشدها الإنسان، كانت عندما رأى السلام في بقعة ما من الأرض. ورغم أن الشعر لم يكن مفتوناً بالحرب أو مبشراً بها، في التراث الشعري العربي، بل على العكس كان مفتوناً بالسلام ومبشراً به، إلا أننا نجد أن الحرب عندما تقع لأسباب سياسية، أو اقتصادية، أو دينية، ولا دخل للشعراء فيها، لا يتوانى الشعر في أن يكون إلى جانب الحرب والمحاربين، فيما لو علمنا أن الحياة العربية قبل الإسلام قد قامت في معظمها على الحرب (الغزو) من أجل المال والطعام. وأن العرب كانوا طلاب سلام من خلال الحرب التي تُغني وتُطعم، وتنشر الدين الجديد، وتُوسّع رقعة الدولة العربية.

-6-

من ناحية أخرى، فإن انغماس وانهماك الشعر العربي القديم بالحرب، كان له سبب مُبرر، وهو أن الشعر كان يقوم مقام التاريخ في الرواية. فيقال مثلاً إن شعر ابن الرومي عن "مذبحة البصرة" التي قال فيها:

انفروا أيها الكرام خفافاً

وثقالاً إلى العبيد الطغام

إن قعدتم عن اللعين فأنتم

شركاء اللعين في الآثام

كان أكثر إنباءً من الكتب التاريخية. وإن شعر الحماسة كان خير مُنبئ للتاريخ العسكري والحربي العربي. ومن هنا يقال مثلاً: "حروب سيف الدولة في شعر المتنبي"، وليس: "شعر المتنبي في حروب سيف الدولة".

ومن هنا يقال أيضاً، إن شعر البحتري استُعمل كتصحيح وتوضيح لكثير من الحوادث التاريخية. ولو اقتصر التاريخ على المؤرخين من دون الشعراء، لوجدنا الكثير من المغالطات التاريخية القاتلة بالنسبة لتاريخنا العسكري القديم.

فهل استطاع الإعلام العربي اليوم، المتمثل في الفضائيات التلفزيونية – خاصة- أن يقوم بدور الشعر قديماً؟