"على جسر مهترئ" قضى غسان نصار ـ الشخصية الرئيسية في رواية وليد الشيخ: العجوز يفكر بأشياء صغيرة ـ ساعات حياته الأخيرة متمشيا يستعيد أيامه؛ خارطة تلك الحياة التي كان يطل عليها من الخارج وهي تنفرط منه تباعا. يطويه الذهول من حياة مخطوفة من بين يديه لم يعشها. عاش وهم انتظار يوم يركب سكتها؛ تشطأ منه الأجنحة فيضربه الهواء إلى موقعة المعنى وساحة الفعل، بما يؤشر على حضوره الفردي وهويته الوجودية، يغرف من الاحتمال والإمكان ويشتل خياراته دون ندم وبلا أسى.

"على جسر مهترئ لا يطل على شيء" كان غسان نصار في إهاب العجز والحيرة. لaا يستطيع مضيا ولا ثمة أوبة، تتخاطفه شعل الذكريات بحرائقها تنسكب على نتف حياته وشجرتها الضامرة الموزعة أغصانها بين الحاضر والماضي بين هنا وهناك. يتأمل العطب الذي خالطها وبات رائحة خبيثة تسري مع خطوات العمر. وليس غريبا أن أول وافد من ذكرياته من عالم الطفولة المدخول بحادثة حفرت حائط حياته بدلالتها ورمزيتها، وكأنها الغلاف أو الفقاعة التي ستترحل عبرها حياته. المتعة ليست كما هي عليه وليست كما تظهر. غشاء اللذة يسرب ما يعكر ـ تلك اللذة ـ وينوشها بطعنة. شاهد الطفل كيف أن متعة "الترمس" ولذته يصرعهما فأر يقفز من وعاء البائعة الذي يحتوي على الترمس تبيعه للأطفال (رأى فأرا سمينا وكسولا يخرج من الوعاء، في حركة يبدو أن الفأر اعتاد عليها، رجفت أصابعه التي تحمل حفنة الترمس، واحتار من جديد في دوامة سؤال كبير ونتن: ما الذي عليه أن يفعله بحفنة الترمس التي في يده؟).هذه اللقطة التي بقيت في الذاكرة من كامل المشهد: الحيرة التي سكنت يده. هل رمى حفنة الترمس؟ هل أعادها إلى البائعة الحاجة فاطمة؟ هل أكلها؟ لا يذكر من هذا شيئا. هل نحن قبالة انتقائية الذاكرة أم هو ختم الحيرة يجلل مصيرا ويكتب مسارا ما فتئ يتقلب فيه مذاك وحتى لحظة وقوفه على "جسر مهترئ": (كل ما يدركه أن فأرا ورائحة بعيدة وكفا صغيرة تحمل حبات صفراء، تجمدت كلها لينقطع الزمن، وتكون لقطة ثابتة حملها منذ مطلع السبعينيات وحتى الآن).

في أفق الحيرة انكتبت حياة "العجوز" غسان نصار الذي لم يبلغ تلك المرحلة من العمر ليتسمى عجوزا، فهو كما يستشف ـ من الرواية ـ من مواليد النصف الثاني من ستينات القرن الماضي ووقوفه على "الجسر المهترئ" كان في خريف 2011 لكنه يلح على الإطلالة من نافذة عمر غارب. يسل جسده إلى منطقة متقدمة تعفيه من الفعل ومن الأمل. ذلك أنه لم يضع نفسه في المستقبل أبدا. كوم التردد، وهشاشة الموقف، جسده وحياته في الهامش. كلما دعته الحياة إلى الانغمار في مجراها وإصابة لذائذها، سرعان ما يفر بمنشفة الحيرة يجفف ما علق به، يخرجه من لحظته وآنيته ويدرجه في خزانة الماضي. ما مر به وغمر حواسه، في نعمى الاتصال الجسدي سواء مع مريم اللبنانية أو إيزابيل التشيلية عندما كان يدرس في موسكو، كان يقتلعه في اللحظة نفسها ويرميه في الخلف حيث الماضي الذي لم يأت ولم تقرع أجراسه بعد (دائما يراوده إحساس أن ما يحدث الآن هو ماض يطل عليه، باعتباره ماضيا مؤجلا).. (كان يتصرف على اعتبار أن ما بينهما زائل، كان يبني ماضيا ليعيشه).

"العجوز" بانغراسه، بكليته، في الماضي وتعطيله حياته أن تكون شيئا صلبا مشاركا إن في الحياة الاجتماعية أو السياسية؛ قد سحب ظلا ثقيلا على الزمن الذي ذهب أثره فلم يعلم على حضوره إلا بيولوجيا. ما خلال ذلك فإن الزمن، باعتباره فاعلية وتحولا وانتقالا وخطوطا من التجربة وحظوظا من الممارسة، ليس له تمثيل في شخصية "العجوز"؛ محض عبور وتراكم لا يفضي إلى أثر (يعرف أن الزمن لا يتكرر، ولا ينتهي، فقط يمر، دون رائحة، دون صوت، لكنه يمر).

"على جسر مهترئ" يكتشف غسان نصار بعلامات تعجب مترعة، وهو ينقب في تفاصيل حياته الصغيرة المحقونة بالحيرة وبكثير من الندم والمرارة، النقص الفادح الذي دمره وشطب أحلامه (أيعقل أنه لم يعش حياته أبدا!! أنه أمضى كل هذه السنوات يترقب ما لا يحدث وما لا يجيء!!).

تضرب رياح العدم قلبه بهذا الاكتشاف؛ الانكشاف. عصا الذكريات لا تسند القلب ولا تضرم شهوة الحياة ثانية (يمضي بلا رغبة، في جيبه ندم كثير، يمد أصابع يده اليسرى ويحرك ذرات الندم، قلبه مثل قشرة برتقال، وعيناه ضجرتان خلف النظارة الطبية).

ينزل العجوز عن الجسر المهترئ؛ ينزل عن الحياة. يموت العجوز لأنه أراد أن يموت. ربما يستأنف "الحياة" في أوراقه المتروكة عهدة العائلة التي تكفلت بنشرها بعد وفاته.



* كاتب سعودي