هذا الفن هو لب الطب كما كانت الروح للبدن فالطب لم يتأسس إلا بهذا الجو من القداسة والرحمة والاهتمام والاعتناء، وحاليا أصبح علما راسخا طلعه هضيم، ومنذ قسم أبوقراط قبل أكثر من ألفي سنة حتى اليوم نما هذا العلم ويجب أن يعتمد كمادة أساسية في تدريس طلاب الطب، فيجب أن نعرف إذا باختصار ماذا تعني كلمات أخلاقيات الطب؟

إنها تبدأ منذ اختيار من يطرق هذا الباب ليصبح طبيبا، وكيف يتم اختياره؟ وكيف يقرر السير في ممارسة هذه المهنة؟ باعتبارها المهنة الإنسانية الأرقى، ورأس الحكمة والشفاء، فهي مهمة المهن؛ وهي بمثابة القلب من الجسد ـ والفكرة من الدماغ، فكل المهن تعنى بشيء، أما الطب فهو مهنة المهن. وفيها يجب تدريب الأطباء على دراسة الجثث والأحياء بروح العظة والاحترام مع مراعاة الفن بصرامة، والتمكن من ممارسة المهنة في أي حقل وتخصص، باطنية أم أطفال أم جراحة أم تخدير أم أوعية ونسائية، وهذا يعني تكريس كل العمر وكل الاهتمام وكل الجهد. يكفي أن تعلموا أن الدراسة سبع سنين دأبا ثم التخصص سبع سنين دأبا ثم التدرب سبع سنين دأبا قبل أن ينضج الطبيب ويكون الرأس قد اشتعل شيبا! وفيها الانتباه إلى سر المريض، فهي علاقة بين الطبيب والمريض لا ثالث بينهما، ما لم تتدخل الدولة والقضاء على نحو إلزامي، ويدخل تحتها موضوع فحص المريض الشامل ومفهوم التقوى فيه، وتحييد الورع البارد، تحت ثلاثة مفاهيم: الضرورات تبيح المحظورات، وتقدر الضرورات بقدرها، ودفع المضار مقدم على جلب المصالح. وتحته يجب فهم كيفية ممارسة العملية الجراحية وكشف العورة وغسل الجسد العاري، فهي التقوى وعين الإحسان، ويدخل ضمنها موضوع مصارحة المريض بالمرض بجنب سريره، والسؤال ماذا لو كان المرض خبيثاً؟ سواء قبل العلاج أو بعد كشفه شعاعيا أو جراحيا؟ ويتدرب الطبيب على أخلاقية أهمية الجلوس إلى جنب سرير المريض والتعرف عليه إنسانيا، باسمه ولغته ودينه؛ فهي أحب الأشياء الثلاثة إلى قلبه، وشرح طبيعة المرض أو العملية الجراحية، فليس مثل جسر الثقة بين الطبيب والمريض عبورا للمعلومات، وتقبل حقيقة المرض، ثم أخيرا الموافقة على العلاج أو التداخل الجراحي والتعرض للعلاج الشعاعي والكيماوي أحيانا، ومن مواضيعها الهامة ماذا لو عثر الجراح على شيء لم يكن يتوقعه؟ أو على العكس ماذا لو استأصل زائدة دودية غير ملتهبة؟ هل يصارح المريض بذلك؟ ثم ماذا يتصرف الطبيب حيال وقوع المضاعفات (Complication)؟ في العلاج عموما والجراحة خصوصاً؟ ماذا لو انسد شريان؟ وانفكت خياطة أمعاء ومعدة؟ وفلت برغي وانحلت صفيحة في عظم مكسور؟ وانتشر قيح، وعم التهاب، وتعاظم انتان، وضربت الرئة بخثرة خطيرة؟ بحيث يجب نقل المريض على وجه السرعة إلى العناية المركزة، ثم ماذا يتصرف الطبيب في مواجهة حالة صعبة ذات تحديات مختلفة وإصابات منوعة؟ والمثالان على ذلك المريض مصاب بكسر مع إصابة في البطن مترافقة مع إصابة وعائية حادة وانسداد أو تقطع شريان؟ أما الأصعب والأكثر تحديا فهو في نفس الحقل، حين يواجه الجراح عملية يعرف أنها ليست بالسهلة، فهل يتشاور مع زميله أو زملائه.

لقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: أشيروا علي أيها الناس.. وفي الحديث ما خاب من استخار ولا ندم من استشار.