لا يمكن النظر للمبادرة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ قبل أعوام، عبر إطلاق مشروع تطوير القضاء إلا باعتبارها إقرارا من أعلى سلطة في الدولة بأهمية تطوير أحد المرافق الرئيسة في المجتمع، والضابط الأول للحقوق والواجبات التي تربط المواطنين ببعضهم، وتربط الدولة بمواطنيها.
مشروع تطوير القضاء وبرنامجه الطموح الذي رصد له أكثر من 7 مليارات ريال في ميزانية مستقلة، لن يكون له التأثير المرجو الذي يصب في مصلحة العدل والعدالة الاجتماعية، ما لم يضع في عين الاعتبار المحصلة الأخيرة للعملية القضائية، وهي إصدار الأحكام وفق ما تنص عليه مواد القانون، وبعيدا عن تقدير القاضي الشخصي وأهوائه النفسية، وقناعاته الفردية، فاستمرار إصدار الأحكام في القضايا وفق وجهة نظر القاضي ووفق تقييمه للأمور وتحليله للتفاصيل، ستجعل الأحكام مزاجية وإن اعتمدت في أحد جوانبها على أسس قانونية.
خلال الأسبوع المنصرم، صدر حكمان في قضيتين مختلفتين؛ إحداهما كانت في بريدة وذلك بسجن مجموعة من الشباب كانت أقصاها على شاب عشر سنوات وتغريمه 50 ألف ريال وجلده ألفي جلدة في القضية التي عرفت بـ"شباب التعري"، بعد أن أدانتهم المحكمة بالرقص متعرين في نفود الربيعية بالقصيم أمام تجمع شباب، وانتشار مقطع مصور لذلك في مواقع التواصل الاجتماعي، أما القضية الثانية فهي الحكم على أب قتل ابنته بالسجن ثماني سنوات و800 جلدة في القضية التي شغلت الرأي العام وعرفت باسم "المعنفة لمى"، في وقت تنازلت أم الطفلة عن قصاص الأب مقابل حصولها على مبلغ مليون ريال.
في القضية الأولى، هناك فقط حق عام، أما في الثانية فهناك حقان: عام وخاص، ونجد أن القضية ذات الحق العام ـ بعيدا عن الجانب المالي ـ فإن تقدير القاضي الشخصي جعله يعتقد بأن تعري مجموعة الشباب المتهور تستحق عقابا يفوق قتل أب لطفلته، بينما نجد في القضية الثانية أن القاضي لم يجد أن قتل النفس يستحق عقابا يفوق التعري في النفود، وأن المال بإمكانه أن يسقط الحقوق.
تقنين القانون الشرعي هو الحل لتطوير القضاء، واحترام القانون لا يأتي إلا بقانون لا يحتمل التفسيرات المتعددة والتقديرات الشخصية وسلطة الفرد وإن لبس ثوب القانون، لأن القانون نظام محايد لا يحيد، بينما صاحب الهوى يتجاذبه الهوى فيصيب ويخيب.