تتغير الأزمنة بتغير مدخلات الحياة، وتبدل معايش المجتمعات واختلاف الروابط الفكرية والاقتصادية بين الشعوب.. ومن فترة تاريخية إلى أخرى، تفرض التحولات نفسها على حركة الكائنات وتفاعلاتها، ويمتد نطاق تأثير التفاعل الحيوي من الإنسان إلى الطبيعة (الجيوبولتيك) ومنهما إلى كل ذي حق في الحياة على ظاهر الأرض.

ومع اختلاف الحقب، وتغير الأزمنة، تأخذ الثقافة مكانها البارز في صياغة الوجدان الإنساني، وتتبارى الشعوب وتتنافس على أفضلياتها المعرفية، وتنشغل عقول قيادتها بتداول محددات التغيير وتأثيراته المحتملة في علاقات النظم السياسية وإدارة عملية تبادل المصالح المادية بين المجتمعات، وهو الأمر الذي يفرض شكلا آخر من خرائط الصراع ونزاعات التفوق والنفوذ اللذين يتوزعان على جبهتين: أولاهما؛ تلك القوى الدولية المسيطرة على أدوات النفوذ ووسائله وتقنياته، فيما تعتاش الجبهة الثانية على تناقضاتها الداخلية وتتناهبها معرفة المحاكاة (التقليد) وتوطين حالة الارتهان لمتغيرات الصراع الدولي، دون وعيٍ بمؤهلاته أو وجودٍ تشاركي في رسم معادلاته وإدراك ماهية التغيير الذي يتعين التأسيس له بخطوة صحيحة في بنية التنوير المعرفي بدلاً عن آلاف الخطى الدنكشوتية المتدافعة في تنور السياسي المؤدلج الذي يحيل الثقافة على مؤخرة أشغاله لتغدو السلطة - لا الدولة - هدفاً قائما بذاته، ومرتكزاً محورياً للتغيير.

بعد سنوات من التيه، سيقول هذا السياسي الدوغمائي أخطأنا الوجهة، وقدنا الربيع العربي باسم التغيير، ولم نكن نعرف المضمون الوطني والقومي والحضاري لمضامينه الثقافية القادرة على تحرير العقل من رواسب التخلف ومعاقله الاجتماعية. لكنه - السياسي الفج - سيبدأ من فوره في حبك لعبة أخرى تعيده إلى الواجهة تعبيرا عن شغفه بمقارعة تحديات المستقبل أصالة عن التغيير ونيابة عن ذوي المصلحة الحقيقة بترجمة أشواق الغد! قل ما شئت حول عهد وممارسات الرئيس المصري السابق محمد مرسي، لكنك لا تستطيع إنكار مسؤولية ثورة 25 يناير عن إنتاج مرحلته، وما لا جدال فيه أن أحشاء الثورة المصرية امتلأت بجنين أخذ يتوعدها بالعقوق قبل ولادته، أما وقد ولد من رحمها، فإن أول رصاصة طائشة تطلق باسم الثورة اتجهت صوب الثقافة بوصفها الحامل الموضوعي المفترض لقيم التغيير وأولوياته الرئيسة في واقع مجتمعاتنا العربية.

كان هذا شأن ثوراتنا العربية بنهجها المغاير لأهدافها المعلنة، وسيصبح ذلك حكم التأريخ على نزوعها لطابع الانقلابات من حيث الممارسة وماهية الأحداث التالية لانطلاقاتها.

قريبا، وتدخل هذه الثورات عامها الرابع من غير أن تقدم نموذجا للاحتذاء أو مثالا على مغايرة نقائضها داخل حركة الواقع.

واضح أننا لن نرى الطاووس الليبي يختال وسط خيمة تكتظ بخرافات اللجان الشعبية، وخدعة البلد الاستثنائي الذي ليس لديه أمير أو ملك أو رئيس يحكمه، لكن بصمات القائد ما تزال سمة سائدة تطبع صبغتها الطاغية سحنة التغيير فيما لا أثر للثقافة على تشكيل الفوارق الواقعية بين ما كان وما هو كائن!

في أوعية السياسة تتداخل الأزمنة ببعضها ويتموضع فعل المجتمعات وسطا بين حاضر لا علاقة له بالمستقبل، وماض ما ينفك حاضراً بعوامله وشخوصه ورعونة تفاعلاته..

لم تغب الثقافة عن ربيع العرب فقط، وإنما صار القدر الضئيل من مرئياتها هدفا تنشب في قلبه حراب القوى السياسية المستحوذة على مسار الربيع وتفاحته المتحجرة!

في تونس، ومثلها أو على مقربة منها اليمن وليبيا تستأثر السياسة وصراع السلطة على كل شيء تقريبا، لكن لا حديث عن القيم الثقافية التي تؤصل للتغيير أو تضع أهدافه لمصلحة المستقبل.

كثيرا ما كان هذا مدعاة سؤال مختلف: ما دامت قوى الماضي المندحر أو المستتر بأوراق الربيع تقاتل بعضها على السلطة فلماذا لا تكون الثقافة ضمن استعدادات الصراع، ليغدو التنوع في اختيارات الضحايا ممكنا وتبريراته الأخلاقية جزءا من حمولات الواقع، بدلا عن الإحالات المتبادلة على ذمة التغيير، وإضافة تبعات التجريب بالمجربين على كاهل تطلعات الشعوب؟

وكما أن الشيء بالشيء يذكر، نسأل أيضاً: لماذا لا تختلف هذه القوى على شأن من شؤون الثقافة؟ هل ذاك لأن الموقف المسبق من المعرفة لا يدع ثمة مبررا للاختلاف ليصبح التغيير على هذه الوتيرة مجرد تهيؤات توهمتها الشعوب، لتضع يدها على سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء؟