تواجه الأجهزة الرقابية في المملكة العديد من المعوقات، لعل من أبرزها: عدم تجاوب الجهات الحكومية مع استفساراتها وملاحظاتها، وحجب المعلومات والبيانات عنها، الأمر الذي أثار استغراب أعضاء مجلس الشورى، معتبرين ذلك دليلا على ضعف الرقابة الحكومية في كل من ديوان المراقبة العامة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة"، الأمر الذي يؤدي إلى تشجيع الفساد.

لا شك بأن إخفاء المعلومات وعدم التجاوب يؤدي إلى عدم تمكين الأجهزة الرقابية من ممارسة صلاحيتها واختصاصاتها بحرية واستقلالية تامة، مما ينعكس بالسلب على جهود الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد، وقد تبدو هذه الممارسات من قبل بعض الجهات الحكومية نوعاً من التحدي السافر للأجهزة الرقابية كدليل على ضعفها وعدم قدرتها على محاسبة المسؤولين عن تلك الممارسات.

وبناءً على ما سبق، فإن البعض قد يتساءل عن سبب عدم تعاون الجهات الحكومية مع الرقابة، فهل هناك فراغ تشريعي وقانوني أدّى إلى عدم مساءلة هذه الجهات، أم أنها موجودة ولكنها غير فاعلة ولا تطبق على أرض الواقع؟

وللإجابة عن السؤال السابق، من الضروري في البداية الرجوع إلى الأنظمة والقوانين الخاصة بهذا الموضوع، ولنبدأ بنظام ديوان المراقبة العامة أولاً، فقد نصت المادة (10) على "جميع الجهات الخاضعة لرقابة الديوان تقديم كافة البيانات الحسابية وغيرها من المستندات والوثائق.."، كما تضمنت المادة (11) بأن على الجهة الحكومية أن تخبر الديوان بما اتخذته من إجراءات تجاه ملاحظات الديوان خلال مدة أقصاها شهر من تاريخ إبلاغها، وجاء في المادة (12) أن أية مخالفة لأحكام المادة (11) أو التأخر في إرسال البيانات المطلوبة عن مواعيدها المحددة فإن المسؤولية تقع على عاتق مدير الشؤون المالية أو من يقوم مقامه ما لم يثبت أن شخصاً آخر بعينه هو المسؤول.

يلاحظ من خلال المواد السابقة وجود بعض الاعتبارات، منها: عدم وجود عقوبات وجزاءات واضحة وصريحة عند مخالفة أحكام نظام الديوان وخاصة ما جاء في المادة (10)، بالإضافة إلى عدم وجود مرجعية قضائية لتطبيق أحكام النظام وإيقاع هذه العقوبات، كما أن المادة (12) جعلت المسؤولية مشاعة في حال ثبت تورط موظف آخر غير مدير الشؤون المالية.

هذا بالإضافة إلى أن الجهات الحكومية في الغالب لا تتمنع عن التعاون مع الجهات الرقابية بشكل ظاهر، وإنما قد تسلك في ذلك عدة طرق للتحايل على أحكام النظام، ومن ذلك على سبيل المثال: الرد على الديوان بشكل مقتضب ومنقوص أو تزويده ببيانات غير مكتملة، حتى تنتفي عنها المسؤولية بالقول: "تم الرد وتم تزويد الديوان بالبيانات المطلوبة بناءً على الأنظمة وكفى"، أو أن تعمد بعض الجهات إلى تقديم "كبش الفداء" من خلال إيقاع المسؤولية على الموظفين الصغار، واتهامهم بضياع خطابات الديوان وتقاريره، وقد يكون ذلك بالاتفاق مع الموظف على أن يتم تعويضه من خلال الانتدابات أو خارج الدوام إذا تم الخصم من مرتبه أو من خلال استغلال ضعف الاتصالات الإدارية بالجهة الحكومية.

كما قد تعمد بعض الجهات إلى افتعال نزاع مع الديوان من خلال إيجاد مبرر عن طريق تفسير وتحوير الأنظمة والقوانين عن أهدافها الحقيقية بحيث يخضع الأمر لتقديراتها الإدارية، كما يمكن الامتناع عن تقديم المعلومات بحجة سرية الوثائق والمستندات أو عدم معقولية طلبات الديوان، وبهذه الطريقة يمكن التقليل من أهمية المخالفات، وبالتالي الصعوبة في تحديد المسؤوليات والاستمرار في التجاوزات.

أما بالنسبة للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة" فإن تنظيمها لم يشتمل على أية ضمانات تتعلق بامتناع الجهات الحكومية المشمولة باختصاصاتها عن إمدادها بالبيانات والمعلومات المطلوبة، وهذا الأمر يؤدي إلى عدم تعاون الجهات الحكومية بشكل أكبر من ديوان المراقبة، فكما رأينا آنفاً، فإن نظام الديوان رغم وجود عدة اعتبارات وملاحظات عليه إلا أنه اشتمل على بعض المواد في كيفية التعامل مع الجهات التي لا تتعاون معه، مما يعني وجود فراغ تنظيمي نوعاً ما في تنظيم الهيئة.

فقد تضمنت المادة (5) من تنظيم الهيئة على أن تقوم الجهات الخاضعة لاختصاصاتها بتزويدها بكل ما تطلبه من وثائق وبيانات ومعلومات تتعلق بأعمالها، بالإضافة إلى تمكين منسوبيها من تأدية مهامهم، والرد على استفسارات الهيئة وملاحظاتها، والإجراءات التي تم اتخاذها خلال مدة أقصاها ثلاثون يوماً من تاريخ إبلاغها، ومع ذلك لم يشتمل تنظيم الهيئة على أية مواد تتعلق بما هو مطلوب عند مخالفة أحكام هذه المادة، في حين أن التنظيم يضع على عاتق الهيئة مسؤولية التعاون والتنسيق مع الجهات الحكومية، ولا يفرض جزاءات وعقوبات ولا يوضح كيفية إلزام الجهات غير المهتمة أو غير المتعاونة معها.

إن من أهم الضمانات التي تستند إليها الأجهزة الرقابية في ممارستها لمهامها هو حقها في الحصول على المعلومات والوثائق التي ترى أنها معقولة ومهمة، وعليه تلتزم الجهات الحكومية بتوفير جميع المعلومات والبيانات التي تمكنها من القيام بدورها الرقابي، لذا أرى من الضروري وجود مرجعية قضائية في حالة عدم التعاون مع الأجهزة الرقابية أو في حالة وجود خلاف جوهري مع الجهات الحكومية، مع النظر في إيجاد محاكم للأموال العامة للبت في القضايا المتعلقة بالمخالفات المالية وما في حكمها من الجرائم الاقتصادية.

كما يتطلب الأمر إيجاد صيغ نظامية وقانونية واضحة وصريحة تضمن رد الجهات الحكومية على ملاحظات واستفسارات الأجهزة الرقابية وتقديم البيانات والمعلومات لها، واعتبار عدم الرد أو تقديم المعلومات أو المماطلة والتأخر في ذلك من المخالفات التي تستوجب المسؤولية القانونية والقضائية والجزائية وتشديد المسؤولية المباشرة على كبار المسؤولين التنفيذيين، مع تفعيل التعاون والتنسيق ما بين ديوان المراقبة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد على مستوى تبادل المعلومات لتحقيق أفضل النتائج والتكامل بينهما.