أكتب هذا المقال من مدينة بوسطن حيث حضرت المؤتمر الدولي السنوي للنقابة الدولية للمحامين، ونظرا لأنها تجربتي الأولى مع هذه النقابة، فقد كانت لي بعض المشاهدات التي أحببت أن أدونها لتعم الفائدة الجميع.

قبل أن أبدأ بتدوين مشاهداتي عن المؤتمر، أود أن أشير إلى أن النقابة الدولية للمحامين هي عبارة عن منظمة أهلية تم تأسيسها في عام 1947، لتكون هيئة دولية تجمع نقابات المحامين حول العالم، ثم بدأت تتحور بعد ذلك لتشمل المحامين بشكل مستقل عن نقاباتهم بالإضافة للنقابات ذاتها، وهي اليوم تجمع ما يزيد على الخمسين ألف عضو وأكثر من مئتي نقابة من مختلف دول العالم، وقد أصبحت اليوم مرجعا يشار إليه بالبنان في القدرة على تجميع أبناء مهنة واحدة تعد من أهم المهن على مستوى العالم.

حضر المؤتمر هذا العام ما يربو على الألفي محام ومختص حول العالم، منهم ستمئة محام ومختص من دول أفريقية، وعند السؤال تبين لي أن بعض الدول الأفريقية تدعم محاميها لحضور مثل هذه المحافل الدولية سعيا منها لتطوير المهنة لديهم.

في هذا المؤتمر وجدت أن كثيرا من الدول ترسل وفودا من وزارات العدل ودوائر القضاء، تماما مثلما ترسل النقابات ممثليها لذات المؤتمر، وقابلت عددا من القضاة ومن المسؤولين في الدوائر العدلية، كل يبين أسباب حرص الجهة التي يتبعون لها لأن يحضروا المؤتمر، وكانت الجملة التي تتكرر على مسمعي دوما هي "متابعة ومعرفة آخر المستجدات لتطوير مرفق القضاء بما يلائمها".

طرح المؤتمر عددا من النقاط القانونية المهمة التي تفيد المختصين كلاًّ في مجاله، ولكنني وجدت أن المساهمة العربية فضلا عن الخليجية أو السعودية جاءت خجلى لا ترتقي للمستوى الذي تأمله النقابة، وقد تحدثت مطولا للسيد جيمس كلوتز، عضو مجلس إدارة النقابة ورئيس شؤون النقابات الدولية في النقابة الدولية للمحامين، ولمجرد معرفته أنني من الخليج جمع لي أكثر من شخص من أعضاء المجلس وكلهم اهتمام بالغ للمزيد من المساهمة الفعالة على مستوى النقابة لا من جانب الدعم المالي، وإنما من جانب التلاقح الفكري والتعاون العملي.

من أهم المواضيع التي طرحت في المؤتمر موضوع استمرارية مكاتب المحاماة وآليات إدارة الأزمات الاقتصادية التي واجهتها وتواجهها هذه المكاتب بسبب التغيرات الدولية والتقنية، والكثير منا يعرف أن ديوي لابوف، وهو أحد أكبر مكاتب المحاماة في العالم اضطر العام الماضي لإعلان إفلاسه وحل الشراكة بين الشركاء بسبب عدم القدرة على التواؤم مع هذه المستجدات، وكانت الوجهة التي تمت مناقشتها على مدى أيام المؤتمر هي وجهة التحالفات والتكتلات الدولية، وآلية إدارة عمليات التحالف والتكتل، وماهية التحديات التي واجهها ومن المتوقع أن يواجهها بعض الشركاء في مثل هذه المكاتب.

تمت مناقشة إشكالية المنافسة بين المكاتب المحلية والمكاتب الدولية في الدول النامية، وقد كان الهم المشترك لدى الجميع هو كيفية إدارة الترخيص لهذه المكاتب في الدول المختلفة بحيث يكون وجودها وجودا حقيقيا يلزمها بتطوير العمل وإفادة المحامين المحليين من تجاربهم وإمكاناتهم، لأن الحاصل دون إلزام أن هذه المكاتب تعمل كما هو الوضع في المملكة (مع بعض الاستثناءات) بطريقة "الريموت كونترول"، تأخذ العمل وتحصل الأتعاب ويتم إنجاز العمل والوثائق خارج المملكة، لتكون في كثير من الأحيان كالثوب الجميل ولكنه لا يقي من برد الشتاء ولا يدفئ في حر الصيف، فهو لم يصنع وفقا لما تستوعبه بيئتنا، وعند طرح هذه الإشكالية كان الرد من هذه المكاتب أن من حقهم أن يديروا عملهم وفقا للآلية التي توفر لهم أقل التكاليف وأفضل مستوى من الإنجاز، خصوصا وأن أنظمة هذه الدول تسمح بل أحيانا تدفعهم للتعامل مع الموضع وفقا لهذا الهيكل.

قابلت أحد المسؤولين في مؤسسة القضاء في أحد دول الخليج، كنت قد سمعت من بعض الجهات العدلية الأخرى الإشادة بهم وبروعة نظامهم، وحكى لي كيف وصلوا للمستوى الذي وصلوا إليه الآن في فترة زمنية تعتبر في عالم الأعمال وجيزة، حيث بدأ مشروعهم في عام 2006، وقد كان كل الذي لديهم ثلاثة حواسيب، تعطل أحدها يوم زيارة المسؤول الأول الذي شاهد تكدس المعاملات واستياء الناس فوجه بتوفير الدعم المالي المباشر خارج دائرة البيروقراطية الحكومية، وأن يكون فريق العمل تابعا له مباشرة ومفوضا بالتنفيذ مباشرة دون الرجوع إلى الوزير أو أي من الوزارات الأخرى.

يقول هذا المسؤول، كان القرار الأهم أننا لم نلجأ لجهة أجنبية لتشير علينا، بل كان تصورنا الخاص من خلال التدقيق والمراجعة والمعرفة بالمشاكل وماهية الحلول المتاحة، وكانت نتيجة هذا المشروع أن نسبة إنجاز القضايا في ذات العام لديهم الآن هي 98%، وحين توجهت بالسؤال لأحد القضاة من ذات الدولة وبعد إلحاح، قال إننا أصبحنا بين الطمع في المزيد والخوف من البقاء، حيث نحن بينما يزيد دخل أندادنا، فمرتباتنا مرتبطة بمكافآت مجزية في آخر العام وهذه الأخيرة تحددها نسبة الإنجاز، واللطيف أن نسبة الإنجاز لا يستطيع القاضي التحكم فيها، فهي مرتبطة بإغلاق ملف القضية على جميع مستويات التقاضي، وحين سألته عن عدد القضاة قال تمت زيادته بما يكفل القدرة على إدارة القضايا، وكذلك زيادة عدد الكادر الإداري بحيث يتفرغ القاضي لعمله فقط.

أتمنى في الأعوام القادمة أن أرى وفدا من وزارة العدل ومن القضاء يحضر هذا المؤتمر وغيره من الفعاليات والمحافل الدولية، التي ستكون نتيجتها إثراءهم فكريا وإدراكهم لمدى التطور الذي وصلت إليه بعض الدول، ليعينهم ذلك على تطوير مرفق القضاء لدينا بالشكل المأمول.