كثيرا ما تمر علينا قصص تجعلنا ننتقل من قلب ذاكرة الواقع إلى واحة الذكرى، ويعود بنا الخيال إلى لحظات عشناها، قد تكون نقطة في بحر العمر، ولكن بتأثيرها تتعدى المحيط كله، هنا طفلة تعلمنا الابتسام.. وهناك فتاة تعلمنا التواصل.. هنا شاب يعلمنا التأقلم.. وهناك آخر يعلمنا كيف نصغي إلى إبداعه فلا نرى ما يعانيه بل نعيشه باللغة التي يتقنها.. فما أجمل أن تستمع لمقطوعة موسيقية من شاب صغير مصاب بمتلازمة داون يقتات رزقه من زائري الأسواق والحدائق.. روح جميلة تجبرك على التوقف بابتسامة ساحرة تشدك إلى أسفل.. وتميل بكل ما تحمله من أكياس وتجلس إلى جانبه على الرصيف.. وفجأة تشعر بأن الأرض تختفي تدريجيا من تحتك.. بتأثير من النغمات.. أصبحت معلقا بين سماء وأرض!

والقصة التالية أعادت إلى روحي كل اللحظات الإنسانية. إنها قصة لكاتب كان يشعر بالاكتئاب من كثرة ضجيج الحياة، فهرب إلى شاطئ البحر باحثا عن الهدوء، وإذ به يمر بجانب طفلة منشغلة بالرمال، رفعت عينيها اللتين كانتا بزرقة البحر ابتسمت، وقالت: "مرحبا"، فرد عليها بحركة من رأسه كرد على التحية، فلم يكن في حالة تسمح له بالحوار مع أحد، فقالت: "أنا أبني"، فرد عليها: "نعم أرى ذلك، ما الذي تبنينه؟"، سأل وهو غير مهتم أصلا بما تفعل، وبكل فخر قالت: "لا أعرف ولكنني أحب ملمس الرمل بين يدي"، فتمتم قائلا: "جميل"، وهمّ بإكمال طريقه حين هبط بجانبهما عصفور زمار الرمل، فابتسمت الطفلة وقالت: "هذا فعلا سعادة!". استغرب الرجل وسأل: "هذا ماذا؟!"، "إنه فرح!.. والدتي تقول إن زمار الرمال يزورنا ليهدينا السعادة"، فقال في نفسه: "أي سعادة؟! ما أشعر به التعاسة بذاتها"، ثم سمع صوتها يقطع عليه أفكاره ويسأل: "ما اسمك؟"، "هذه الطفلة لا تعرف أي معنى للاستسلام!"، فردت: "أنا اسمي وندي وعمري ست سنوات"، "تشرفنا وندي" كان رده، "أنت تسعدني" قالتها وهي تضحك برقة، فوجد نفسه يضحك أيضا وتابع طريقه وصوت ضحكتها يرافقه، "لا تنسَ أن تعود يا سيد بيترسون وسوف نستمتع بيوم سعيد آخر"، قالتها وهو يبتعد..

ومرت الأيام وزادت الضغوط فوجد نفسه يفكر بزمار الرمل وتوجه مرة أخرى لشاطئ البحر، وهناك وجدها.. بادرته بالسلام وسألته: "هل تريد أن تلعب؟" أجابها: "ماذا لديك من ألعاب؟" قالت: "لا أعلم أنت اختر"، فعرض عليها عدة ألعاب لم تتعرف على أي منها، وحينها قال: "إذن ما رأيك أن نتمشى قليلا؟" وافقت وسارا جنبا إلى جنب وسألها: "أين تعيشين؟" أشارت بيدها إلى كوخ على تلة قريبة... "هناك" أجابته، استغرب الرجل، في الشتاء وتعيش في كوخ صيفي! فسألها: "والمدرسة؟" هزت كتفيها وقالت: "أمي تقول إننا في إجازة"، وفي نهاية المشوار ودعها فقالت له: "لقد كان يوما سعيدا"، هز رأسه.. ابتسم وتابع طريقه إلى سيارته.

وبعد فترة، عاد إلى الشاطئ في حالة يرثى لها، وأول ما اقتربت الطفلة سارعها بالقول: "رجاء لست في حالة تمكنني من الحديث مع أحد!"، ولكنه لاحظ أن البريق الذي كان يشع من عينيها قد اختفى، سألته بصوت متقطع: "لماذا؟" فصرخ في وجهها قائلا: "لأن أمي قد توفيت!" صمتت الطفلة للحظة ثم قالت: "حقا؟! إذن هو يوم حزين!" فرد عليها: "نعم هو كذلك.. ويوم أمس.. واليوم الذي قبله.. فرجاء اذهبي واتركيني في شأني!" ولكنها تسمرت في مكانها وسألت: "هل كان مؤلما؟" نظر إليها مستغربا: "ما الذي كان مؤلما؟" أكملت: "حين ماتت، هل تألمَّت؟"، "بالطبع كان مؤلما...!" فاتته أهم لحظة في حياته، لم يفهم ما الذي كان يحدث، وأكمل طريقه إلى السيارة!

وبعد شهر قرر العودة إلى الشاطئ وهو يشعر بوخز الضمير، ولكنه لم يجدها.. فشعر حينها كم كان يفتقدها ويفتقد وجودها والفرح الذي كانت تبثه في قلبه ببراءتها وجمال روحها، فاتجه إلى الكوخ حيث أشارت له يوما، ودق الباب وانتظر، فتحت له الباب شابة جميلة، فبادرها قائلا: "مرحبا اسمي بيترسون.. لقد افتقدت اليوم طفلتك على الشاطئ وجئت أسأل عنها"، ابتسمت وقالت: "إذن أنت هو! لقد حدثتني وندي عنك كثيرا، بل لم تكن تتوقف عن الحديث عنك، اعذرني إن كانت قد أزعجتك يوما"، "كلا على الإطلاق"، أجابها بسرعة وأضاف: "بل كانت مثل النسمة الباردة في حياتي"، قالها وهو يشعر ولأول مرة أنه فعلا يعني كل كلمة تلفظ بها.. "ويندي توفيت الأسبوع الماضي، لقد كانت مصابة بسرطان الدم، ربما لم تخبرك بذلك!" تجمد الرجل ولم يعد يعرف بماذا يفكر أو ماذا يقول فوجد نفسه يسحب أقرب كرسي إليه ليهبط عليه بكله.. روحا قلبا وقالبا.. يكاد يختنق من هول الخبر!

أخبرته السيدة كم أحبت ابنتها الشاطئ، وحين طلبت أن تعيش بقربه قررت أن تحقق لها أمنيتها.. في بادئ الأمر كانت تتحسن وروحها كانت مرحة إلى أن تدهورت صحتها فجأة منذ عدة أسابيع، وكيف أنها تركت رسالة خاصة له، وحين فتحها وجد ورقة بيضاء رسم عليها شاطئ أصفر وبحر أزرق وطائر بني.. وفي أسفل الرسالة وبخط طفولي كُتب: "زمار الرمل ليجلب لك السعادة"... هنا فقط استيقظ قلب كان ميتا، شُرّعت أبوابه للمحبة مع وابل من الأدمع الساخنة التي كانت تغسل روحه وهي تنهمر على خديه.

كم رسالة محبة أُرسلت، وكم رسالة أُهملت، وكم روح أينعت وأزهرت، وكم روح ذابت وانطوت، أرواح تتلاقى، وأرواح تفترق، رسائل من الرحمن.. عبر الماء.. عبر الهواء.. عبر النبات.. عبر الحجر.. منا من يفتح ويقرأ فيرتقي للإنسانية ومنا من يهمل ويبقى بشرا.. منا من يرى الغروب ومنا من يرى الفجر!