"سوميا" بالنسبة للجِن كآدم بالنسبة للبشر، هو أولهم ومنه بدأ الأمر، فتكاثروا حتى عمروا الأرض، كانوا في البدء على التوحيد إلا أن طول الأمد عليهم أطغاهم وجعلهم يُفسدون، حتى بعث الله فيهم نبياً مِنهم يقال له "يوسف" فقتلوه، فبُعث إليهم أربعة آلاف من جُند السماء بقيادة إبليس لمقاتلتهم وإجلائهم إلى جزر البحار، وبعد انتصار إبليس استقر في الأرض وأنجب الأبناء والبنات، "ساروخ" هو أول أبنائه، و"لاقيس" أقرب بناته إلى قلبه نظراً لأنها المسؤولة عن شذوذ النساء، أما "دنهش" فهو أقوى أبنائه والحاكِم على إخوته، من هنا يمكِن استنباط أن إبليس يُعاني من مشاكل أسرية متراكمة لم يستطع بسببها أن يُهيئ ابنه البِكر "ساروخ" لتولي مسؤولية إخوته.
بعد هذه المقدمة.. تعالوا نتعرف على "العالم السفلي" بحق: لتكون أول علامة نتعرف عن طريقها على مجتمع العالم السفلي؛ أن الكثير من الأفراد فيه يعلمون كل شيء عن الجِن والعفاريت كالمعلومات أعلاه وأكثر، وفي المقابل لا أحد يعلم شيئاً عن مجتمعه وكيفية سير الأمور فيه، في هذا المجتمع نجد قصة الجن معلومة بالكامل من البداية إلى النهاية، ماذا يأكلون ويلبسون وكيف يُنجِبون، وفي المقابل لا أحد يعلم شيئاً عن المفسِدين في نفس المجتمع، لماذا ينهبون؟ وأين يذهب ما ينهبون؟ لا أحد يعلم! والتناقض لأبعد الحدود من طبيعة مجتمع العالم السفلي، فمن ناحية نجد المجتمع استطاع فك شفرة الماورائيات بكل سلاسة، لكنه يقف عاجِزاً تماماً عن فهم الواقع الذي يحدث أمامه مباشرة!
ويستمر تناقض مجتمع العالم السفلي حين يجلس مجموعة من الأصدقاء "يُدردِشون" عن الجِن فيبدأ الحديث بأن عقول الجِن صغيرة ساذجة وأنهم بالكاد يقتاتون على العظام وروث البهائم ويسكنون الخراب، وفجأة يتحول الحديث عن قدرة الجِن العجيبة على التلاعب بالقضايا داخل أروقة المحاكم، والتأثير في أداء الأندية الرياضية والرياضيين -سلباً وإيجاباً- ولا ينتهي حديث الأصدقاء حتى يقسم أحدهم بأن السر وراء الطلاقة البلاغية التي يتمتع بها الشاعر فلان أنه "مخاوي"! وهكذا نجد مجتمع العالم السفلي عندما لا يجد تفسيراً منطقياً لقضاياه فإنه يمنطّق غباءه!
الزواج في مجتمع العالم السفلي يبدأ بنظرة فابتسامة، وبعد أسابيع قليلة يُغلق الباب على الطرفين مع دعوات الأهل والأصدقاء بالتوفيق، تمر السنين الأولى ليجد الزوج والزوجة نفسيهما بين مجموعة أطفال وحالة مادية يُرثى لها، وكلما زادت رداءة الحالة المادية، انحسرت مُتع الحياة في الإنجاب، وكلما تمادوا في الإنجاب، زادت رداءة الحالة المادية! وهكذا تمضي السنين فوضوية بين الزوجين فتكثر المشاكل، حينها فقط تتدخل العائلة والأصدقاء لتقديم النُصح بمراجعة "الشيخ فلان" فوراً، لأن ما هم فيه من مشاكل وراءه جِن وعفاريت ولا شيء آخر من عوامل اقتصادية أو نفسية، و"فضيلته ما يكذب خبر"!
الأنظمة والقوانين في العالم السفلي مصنوعة من نوع رديء من المطاط، تتمزق سريعاً عند أول محاولة مط يقوم بها الكبار، وتتيبّس تماماً عندما يحاوِل الصغار مطها! وبهذا يتضح أن القانون في العالم السفلي غير قانوني.
ومن علامات مجتمع العالم السفلي، أن قيمة الفرد فيه لا تتحدد بالإنتاج إنما بالقدرة على الاستهلاك، فكلما امتلك الفرد القدرة على أن يستهلِك أكثر، ارتقى، ولهذا فهو يستهلك كل ما في طريقه، يستهلِك مجهودات الآخرين وإنسانيتهم وإنسانيته أيضاً إن لزِم الأمر، لضمان استمراريته في الاستهلاك، بمعنى آخر: أن يكون الفرد أقوى فعليه أن ينجح في تحويل الأضعف إلى مادة قابلة للهضم! وبعد كل هذا الاستهلاك من الطبيعي أن يُصاب المجتمع بالتخمة والانتفاخ ليأتي الإنتاج حينها عبارة عن خليط من نعرات عنصرية وطائفية وقبلية ومذهبية وغيرها من الإنتاجات التي تتكفل بنشر الأحقاد والكراهية، وفرض الذات بالاستعلاء!
ولا يسعنا في الأخير التوقف عند كل العلامات الدالة على مجتمع العالم السفلي، لذلك فمن أراد التقصي أكثر، فسيكفيه الوقوف على الشباك ليشاهِد الأشياء والأحياء؛ فإذا ما وجد ضوضاء وإزعاجاً وأصواتاً فظة وشتائم وازدحاماً يظهر الكل فيه مكفهِراً ساخطاً، وشوارعا تتراكم عليها القاذورات من كل اتجاه، وأكياس قمامة بجانبها أناس يحترفون مخالفة النظام، وقذفاً للنساء بحثاً عن الأجر، وإعلاماً كتب عند الله كذاباً، وكتباً تباع على الأرصفة بينما الأحذية تعرض في أماكِن مكيفة.. من يرى كل هذا وأكثر من شباك غرفته؛ فسيدرِك أنه يعيش في مجتمع من مجتمعات العالم العربي، مجتمعات تمارِس كل إفساد ثم تستعيذ بالله من الجن والشياطين!