أكتب هذا الأسبوع من بروكسل، حيث سيطرت فضيحة التجسس الأميركية على مجريات وأخبار القمة الأوروبية، التي عُقدت يومي الخميس والجمعة "24-25 أكتوبر". وبلغت المشكلة قمتها، حين ظهر أن وكالة الأمن الأميركية، كُبرى أجهزة التجسس الأميركية، كانت تتنصّت على مدى عشر سنوات على الهاتف الجوال للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهي من ضمن "35" زعيما على مستوى العالم تقوم الوكالة بالتنصت على مكالماتهم، حسب التقارير الصحفية المبنية على وثائق الوكالة.

اتصلت المستشارة الألمانية، محتجة، بالرئيس أوباما مرتين منذ ظهور تلك التقارير. وفي خطوة أخرى غير مسبوقة، استدعى وزير الخارجية الألماني سفير أميركا لتقديم احتجاج آخر. ومن المعروف أن ميركل تعتمد كثيرا على جوالها، لدرجة أن الألمان أصبحوا يسمونها "مستشارة الجوال"، مما يعني أن التنصت عليها أتاح للاستخبارات الأميركية الاطلاع على قراراتها ومناقشاتها السياسية والشخصية كافة.

وتتعرض ميركل للانتقاد في الصحافة الألمانية بسبب تأخرها في الاحتجاج، فتلومها على تجاهل المشكلة إلى أن وصلت إلى هاتفها الشخصي. فعلى مدى عدة أشهر، نُشرت تقارير عدة عن قيام الاستخبارات الأميركية بمراقبة المكالمات التلفونية والبريد الإلكتروني للمواطنين العاديين، فيما أصبح يعرف بـ"فضيحة الجوالات". ومع ذلك، فقد تلكأت الحكومة الألمانية في الاحتجاج إلى أن اكتشفت أن هاتف المستشارة الشخصي كان من ضمن ما تم استهدافه.

وهناك قصص كثيرة مشابهة من الدول الأوروبية الأخرى، فعلى سبيل المثال، اتضح أن الاستخبارت الأميركية اعترضت، على مدى شهر واحد فقط، سبعين مليون اتصال في فرنسا، ما بين مكالمات هاتفية ورسائل نصية وبريد إلكتروني.

ومما يتعلق بمنطقتنا، أظهر تقرير إيطالي وجود عملية استخباراتية أميركية-بريطانية مشتركة تختص بالتجسس على الاتصالات بين أوروبا والمناطق الأخرى، تعمل من مركز اتصالات في صقلية، حيث نشرت بعض الصحف الإيطالية مقتطفات من الوثائق التي هرّبها إدوارد سنودن من وكالة الأمن القومي الأميركية، تشير إلى وجود برنامجين يستهدفان نظام الاتصالات الإيطالية والإنترنت، أحدهما أميركي، والآخر بريطاني يستهدف اعتراض الاتصالات بين أوروبا ودول الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، بهدف "معرفة النوايا والمقاصد السياسية" للدول المعنية، وتتبع تجارة الأسلحة، بما في ذلك تجارة الأسلحة الشرعية بين الدول.

في الماضي كانت عمليات التجسس الضخمة مثل هذه مرتبطة في الأذهان بالأنظمة الشمولية والدكتاتورية، منذ أن بدأ تقليد التجسس من ذلك النوع في ألمانيا النازية وروسيا الشيوعية، على النحو الذي وصفه بالتفصيل، بشكل أدبي، الكاتب البريطاني جورج أورويل في كتابه المشهور "1984" عن ممارسات نظام شمولي مستبد يقوم بالتجسس على حركة الأشخاص، ويرصد كل صغيرة وكبيرة يفعلونها أو يقولونها. ولكن مما ظهر حتى الآن عن ممارسات وكالة الأمن القومي الأميركية، فإن تلك العمليات لا تُعدّ شيئا يُذكر أمام ما حققته تلك الوكالة في التجسس على العالم بأسره تقريبا.

وتُظهر احتجاجات القادة الأوروبيين هنا استياءهم الشديد من التجسس الأميركي على اتصالاتهم ومواطنيهم، وهم حلفاء أميركا وأصدقاؤها الأقربون، ولكن ليس من الواضح ما إذا كان جميعهم، أو معظمهم، قد فوجئوا فعلا، أو أنهم صدموا فقط باكتشاف مواطنيهم لذلك. فالمستشارة ميركل، مثلا، قالت في بروكسل: "أوضحتُ بجلاء للرئيس أوباما أن التجسس على الأصدقاء ليس مقبولا على الإطلاق". وفي تصريح يعكس جو المناقشات الأوروبية في بروكسل حول أمن المعلومات، أضافت "لقد أصبح من الواضح أنه يجب في المستقبل إحداث تغيير، وأن يكون تغييرا جوهريا. وسنضاعف جهودنا للتوصل إلى تفاهم مشترك قبل نهاية هذا العام حول التعاون بين أجهزة الاستخبارات الألمانية والفرنسية مع الولايات المتحدة، ووضع إطار لذلك التعاون".

ودعم القادة الأوربيون موقف ميركل، حيث عبر "مارك روت" رئيس وزراء هولندا عن دعمه الكامل لشكواها من التصرف الأميركي، الذي عده "مرفوضا". وبالمثل عبّر الرئيس الفرنسي "فرانسوا أولان" عن رفضه. أما رئيس الوزراء الإيطالي "إنريكو ليتا" فقد صرح بأنه "من غير المفهوم وغير المقبول" أن تكون هناك عمليات تجسس على هذا النحو، وطالب الجانب الأميركي بالإفصاح الكامل عن تفاصيل الأمر.

وتوالت الاحتجاجات من زعماء أوروبيين عدة، إلا رئيس الوزراء البريطاني، الذي لفت لنفسه الأنظار بصمته، خاصة مع نشر معلومات تفيد بضلوع بريطانيا في أجزاء من المشروع الأميركي الاستخباري في أوروبا.

وتُظهر هذه التقارير في مجملها وكالة الأمن القومي الأميركية، كجهاز استخباري خارج عن السيطرة، نتيجة قيام الإدارات الأميركية المتعاقبة، خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001، بإضعاف معايير جمع المعلومات والتنصت على المكالمات ومراقبة الإنترنت والبريد الإلكتروني، فلم تعد في مجملها خاضعة لرقابة قضائية أو إدارية واضحة. فمن المفروض أن اختراق خصوصية المواطن واتصالاته أمر استثنائي، يُقصد به رصد ووقف أي نشاط مخالف للقانون، وليس تحقيق مكاسب سياسية، داخلية أو خارجية. فهل ينطبق ذلك على التنصت على مكالمات المستشارة الالمانية مثلا؟ ولعلنا نذكر ماذا حدث للرئيس الأميركي نيكسون حينما اكتُشف أن رجاله كانوا يتنصتون على أنشطة معارضيه، فاضطر إلى الاستقالة وترك العمل السياسي، وغادر البيت الأبيض في إحدى أكبر الفضائح السياسية الأميركية.

ولذلك، ولمنع إساءة استخدام هذا الاستنثاء، تتطلب قوانين معظم الدول قرارا قضائيا، أو شبه قضائي، قبل بدء التنصت على مكالمات المواطنين واتصالاتهم.

أما التنصت خارج الحدود، فلا تضبطه سوى الأعراف وقواعد الدبلوماسية والمصالح، وقوة الردع من الجانب الآخر. وفي هذا المجال لا تبدو وكالة الأمن القومي الأميركية مقيدة بأي قيد، قانوني أو أخلاقي أو دبلوماسي، فجاوزت كل الحدود، حين قررت التنصت على مكالمات (35) من قادة الدول الأخرى، بما في ذلك أقرب حلفاء أميركا، ومئات الملايين من المواطنين العاديين، وهو ما أظهرته المناقشات الأوروبية خلال الأيام القليلة الماضية في بروكسل.

أليس من المناسب كذلك، أن نطالب أميركا، نحن أيضا، بالإفصاح عما تقوم به من تنصت لمكالماتنا واتصالاتنا؟ وهل نملك أن نطلب منها، كما يطالب الأوروبيون، وضع إطار مشترك يضع حدودا لما هو مباح من التنصت والمراقبة وما يجب أن يكون محفوظا مصانا من الاتصالات؟