أنا لست محللا سياسيا، ولا أفهم في السياسة إلا بقدر ارتباطها بالاقتصاد. ولكن لي تجربتي عبر أكثر من خمسة وعشرين عاما في مؤتمرات وندوات وورش عمل واجتماعات الجمعية العمومية، ثم عضوية مجلس إدارة لأول منظمة دولية أنشئت قبل منظمة الأمم المتحدة وهي منظمة العمل الدولية.

إن هذه التجربة والخبرة الطويلة تدفعني اليوم إلى أن أحيي قرار بلادي بعدم قبول عضوية مجلس الأمن، بعد انتخابها بالتصويت النظامي، وحصولها على النصاب التصويتي الذي يؤهلها بفخر لعضوية مجلس الأمن؛ لتؤكد تقدير واحترام العالم والدول العظمى لدور المملكة العربية السعودية السياسي والاقتصادي.

تأييدي لقرار المملكة بعدم قبول العضوية لمجلس الأمن، لا يعني التقليل من دور مجلس الأمن وعدم أهميته للمملكة وللعالم أجمع؛ لأن أهدافه سامية تحمي الدول من بعضها، وتحمي الشعوب من جبروت قادتها، وأعلم جيدا الأدوار الأخرى لمجلس الأمن ومصدر قوته المستمدة من أعضائه دائمي العضوية من الدول العظمى، لكن تأييدي لقرار المملكة ينبثق من قوة القرار الذي يدافع عن المبادئ، ويسهم في ضمان حقوق الدول الأعضاء المهمشة، إما لكونها فقيرة أو نامية أو تابعة لدول عظمى، تدق المملكة لأجلهم جرس الإنذار معلنة أن بقية دول العالم من الأعضاء في منظمة هيئة الأمم المتحدة غير راضين عن دور مجلس الأمن، الذي أصبحت الدول الدائمة العضوية هي صاحبة القرار، وأصبح قرار مجلس الأمن مسيسا أكثر من كونه حاميا لحقوق الشعوب وآرائها، وحاميا الشعوب من جبروت قادتها، وحاميا حقوق الإنسان والحريات في الدول المحتلة، وعلى رأسها فلسطين. ورغم قناعتي بأن انسحاب المملكة من عضوية مجلس الأمن لن يلحق ضررا ببقية الأعضاء، وقد يكون القرار سعيدا لبعض منهم؛ لأنهم بغياب المملكة لن يواجهوا صوتا قويا يعارض لأجل الحق ولضمان حقوق الدول المحتلة وعلى رأسها فلسطين، التي انتهكت فيها جميع الحريات حتى قرارات مجلس الأمن السابقة جمدت وضرب بها في وجه الحائط. ولن يستطع أي قرار أن يُمرر في مجلس الأمن وفيه تلميح بإدانة إسرائيل؛ لأن الفيتو لأصحاب العضوية الدائمة. وردا على منتقدي قرار اعتذار المملكة عن قبول عضوية مجلس الأمن أدعوهم لقراءة التاريخ السياسي في المنظمات الدولية، الذي يوضح لنا أن الولايات المتحدة انسحبت من منظمة العمل الدولية في بداية الثمانينات وكنت حاضرا في المنظمة آنذاك؛ بسبب قرار صدر من لجنة القرارات يدين إسرائيل وأعمال العنف والانتهاكات الجائرة لحقوق العمال وأصحاب العمل، واعتراضا على هذا القرار الذي صوتت عليه الأغلبية العادلة إلا أن الولايات المتحدة جمدت دفع اشتراكها السنوي الذي يساوي نحو 25% من ميزانية المنظمة، وكان لهذا القرار أثره السلبي على أداء وإنتاجية المنظمة، وأصبحت المنظمة تدفع رواتب الموظفين فقط، أما الأنشطة الفنية فقد توقفت وتضرر أصحاب العمل والعمال وبعض الحكومات والمنظمات التابعة لهم.

وفي عام 2011 أوقفت الولايات المتحدة تمويلها السنوي لمنظمة اليونسكو بباريس، بسبب التصويت لصالح قبول عضوية فلسطين الدائمة في المنظمة بأغلبية 81% من الأصوات أي بنسبة أعلى من نسبة الثلثين المطلوبة، وجمدت الولايات المتحدة تمويل 80 مليون دولار كانت تدفعها سنويا أي ما يساوي نسبة 22% من إجمالي ميزانية المنظمة، وتضررت أنشطة المنظمة وتعطلت بعض المشاريع. وسبق أن أوقفت وجمدت الولايات المتحدة عضويتها في منظمة الفاو FAO ومقرها "إيطاليا"؛ بسبب قرار إدانة لإسرائيل لانتهاكها حقوق العمال والمزارعين الفلسطينين في الأرض المحتلة. أما الاعتراض الأكبر والموازي لرؤية المملكة العربية السعودية في مجلس الأمن، فهو حين اعترضت الولايات المتحدة على البيروقراطية الإدارية والعملية لمنظمة الأمم المتحدة مما يجعلها ضعيفة الإنتاجية والكفاءة، وانتقدت النفقات العالية للمنظمة والمنظمات التابعة لها، ومطالبتها بترشيد نفقاتها، مما دفعها لتأخير دفع اشتراكها ووصلت إجمالي الاشتراكات المتأخرة على الولايات المتحدة نحو مليار ونصف دولار مما دفع منظمة الأمم المتحدة إلى الاقتراض لسداد رواتب موظفيها الذين لا ذنب لهم، وتعطيل بعض البرامج والمشاريع التي تخدم أعضاءها.

إنها مواقف اعتراضية تسجلها الولايات المتحدة على عمل منظمة الأمم المتحدة وعلى المنظمات التابعة لها عندما تسير الأمور في غير الاتجاه الذي ترغب فيه. فلماذا اليوم تُنتقد سياسة المملكة من الصحافة الأميركية أو بعض وسائل الإعلام الإنجليزية والروسية عندما تعبر عن رأيها بقرار خاص بعضوية مجلس الأمن في الوقت الذي تتمنى هذه العضوية معظم دول العالم النامي لتصبح عضوا في مجلس الأمن مع الدول العظمى؟

الاعتذار السعودي عن العضوية تعبير عن مشاعر معظم دول العالم النامية والفقيرة التي تعاني وتعاني شعوبها، والمملكة أوضحت رغبتها في الاعتذار ولكنها لم تقرر وقف أو تجميد عضويتها في منظمة الأمم المتحدة أو أي منظمة من المنظمات المنبثقة منها، ولم تقرر تجميد دفع اشتراكها السنوي مثل فعل بعض الآخرين من الأعضاء. علما بأن المملكة أحرص الدول في العالم على دفع اشتراكها قبل موعد الاستحقاق، كما تعد إحدى أكبر الدول النامية والدول العظمى في مجال تقديم المساعدات من خلال المنظمات الدولية، ومنه دورها في الدعم المالي في معالجة الفقر في العالم، ومساندة الشعوب التي تمر بالكوارث الطبيعية من خلال المنظمات الدولية.

نعم إن انسحاب المملكة لترسيخ المبادئ أقوى من انسحاب بعض الدول من أجل المصالح.