لا أعني بالصلاحيات المطلقة هنا، تركيز السلطات في أحد مراكز القوى السياسية، والتي عبر عنها اللورد "اكتون" بمقولته الشهيرة: "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، وإنما المقصود بذلك هي تلك الصلاحيات الممنوحة للمسؤولين التنفيذيين في الجهات الحكومية، وغير المحددة بضوابط قانونية ورقابية يمكن من خلالها مساءلة المسؤول أو المدير الإداري.

فقد درج العديد من الجهات الحكومية على استغلال الأنظمة والتعليمات المالية في صرف نفقات "الموازنة" في أوجه غير مشروعة، وذلك لأهداف شخصية بحتة تحت إطار القوانين والأنظمة والصلاحيات الممنوحة لها.

ومن أبرز الأمثلة التي يمكن طرحها في هذا المقام، لتوضيح كيفية استغلال الأنظمة في الصرف غير المشروع، التوسع في إجراء المناقلات في بنود الميزانية، فقد نشرت الزميلة صحيفة "عكاظ" في عددها رقم 3271 وتاريخ 18/6/1431هـ، تقريراً لديوان المراقبة العامة يتضمن قيام كثير من الجهات الحكومية بإجراء العديد من المناقلات بمبالغ ضخمة تتعدى عشرات المليارات شملت معظم بنود وأبواب الميزانية العامة للدولة!

وحتى نفهم كيفية عملية إجراء المناقلات، يجب الرجوع أولاً إلى التعليمات المالية التي تفرض قيوداً على الجهات الحكومية لاستخدام الاعتمادات المالية في الأغراض المخصصة لها وعدم تجاوزها، كما تفرض قيوداً على المناقلة بين الاعتمادات، وذلك من منطلق "قاعدة المرونة"، بحيث يتم إعطاء إدارة الجهة الحكومية الحرية في إنفاق الموارد المتاحة وفقاً للظروف والمتغيرات المحيطة، ومن شأن عدم المرونة أن يؤدي إلى التعقيد وصعوبة إنجاز الأنشطة والأعمال وتحقيق الأهداف المخططة.

فإذا راجعنا الفقرة "سابعاً" من التعليمات المالية، البند (أ) فسنجد أنها تنص على أن "تتم المناقلات بين اعتمادات فصول وفروع الميزانية بقرار من وزير المالية بناءً على تقرير مشترك بينه وبين الوزير المختص أو رئيس الجهة ذات الميزانية المستقلة".

وبناءً على النص السابق للبند (أ) فإن المناقلات لا تتم إلا بناءً على وجود مبررات منطقية، بحيث لا يؤدي النقل إلى تأخير صرف استحقاق قائم، أو تعطيل أو تأجيل تنفيذ برنامج أو مشروع معتمد في الميزانية، ومع ذلك لا نجد التصريح بهذه المبررات في الحسابات الختامية والمتضمنة قرارات الموافقة على النقل، كما نجد أيضاً مناقلات بالكامل من مشاريع الباب الرابع أو بنسبة تزيد عن (50%) من تلك الاعتمادات.. فما هي مبررات هذا النقل يا ترى؟

فهل كان النقل بسبب سوء التقدير لتكاليف المشاريع؟ أم إن هناك ظروفا نشأت وغيرت في أولويات التنفيذ؟ أم إنها حيلة من الجهات الحكومية للحصول على الاعتماد المالي وحسب؟ أم إن وزارة المالية وقعت في فخ "تضارب المصالح"، فهي التي أقرت تقديرات الموازنة.. فإذا كانت خاطئة فهي مسؤولة أيضاً عن هذا الخطأ المتمثل في سوء تقدير التكاليف. وفي جميع الأحوال ومهما كانت الأسباب كان يجب التصريح وفقاً للأسس العلمية عن مبررات النقل في قرارات الموافقة.

هذا فيما يتعلق بالمناقلات التي يشترط فيها موافقة وزارة المالية، أما فيما يخص المناقلات التي لا يشترط فيها ذلك، فقد نص البند (ج) من نفس الفقرة السابعة للتعليمات المالية على أن "تتم المناقلات بين بنود كل من الباب الأول والباب الثاني، وبين برامج التشغيل والصيانة السنوية في الباب الثالث بقرار من الوزير المختص أو رئيس الجهة ذات الميزانية المستقلة، على ألا يزيد ما ينقل إلى أي بند أو برنامج عن نصف الاعتماد الأصلي للبند..".

ويفهم من نص المادة السابقة، أنه يمكن النقل بين بنود الميزانية دون الحاجة إلى موافقة وزارة المالية، وبالتالي لا تحتاج الجهة الحكومية إلى وضع مبررات لهذا النقل وما عليها سوى تقدير مبالغ لا تحتاج إليها فعلياً ليتم اعتمادها، والنقل منها فيما بعد في أوجه غير مشروعة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض عناصر المصروفات التي تدفع للموظفين أدرجت دون مبرر في الباب الثاني ضمن نفقات التشغيل، وهي البنود أرقام (201، 202، 203) المتعلقة بالمكافآت والمصاريف السفرية والنقل الشخصي. وهذا الأسلوب يحول دون الرقابة على عناصر هذه النفقات.

بالإضافة إلى ما سبق، لا يوجد سقف مالي محدد للمناقلات إلا فيما يتعلق بعدم تجاوز (50%) من الاعتماد للبند نفسه، وبالتالي تستطيع الجهة الحكومية إجراء المناقلات لمبالغ مالية مفتوحة، حتى إن وصلت إلى مئات الملايين من الريالات، هذا من جانب.

ومن جانب آخر، فكما هو معلوم فإن الجهات الحكومية يلزمها تسهيلات مثل المواد والمهمات والأثاث التي يتضمنها الباب الثاني، أو خدمات التشغيل والصيانة التي يتضمنها الباب الثالث، ولهذا تلجأ هذه الجهات إلى التعاقد مع الشركات والمؤسسات للحصول عليها، وهنا تتم الاستفادة من المادة (26) من نظام المنافسات والمشتريات الحكومية والتي يجوز فيها التفويض للمسؤولين بما لا يزيد على ثلاثة ملايين ريال للبت في المناقصات، وكذلك المادة (44) والتي تتعلق بالشراء المباشر، والتي على أساسها تتم تجزئة المشتريات للدخول في هذه الصلاحية، وبالتالي تغيب تلك المنافسات وتلك المناقلات عن أعين الرقابة.

لست ضد "قاعدة المرونة" في عمليات صرف الموازنة، فإذا كانت هذه المرونة متوافرة في الشركات والمؤسسات لكنها مرونة نسبية لدعم تحقيق الأهداف المخططة، إذ تعد البيانات المتوافرة في الموازنة مؤشرات عامة يمكن للإدارة الخروج عليها دون الحاجة إلى أوامر خارجية، ومع ذلك تتوفر فيها ضوابط للرقابة الداخلية بحيث تقلل من إمكانية التلاعب والإهدار المالي، أما في الجهات الحكومية فيبدو أن هذه المرونة مطلقة وأكثر من القطاع الخاص وبلا ضوابط رقابية وتعطي صلاحيات مطلقة للمسؤولين، فلا عجب أن نرى مصاريف ليس لها أساس نظامي، ومشاريع وهمية أو معطلة لا يستفاد منها، فمتى يتم الاهتمام بأنظمة الرقابة الداخلية في الجهات الحكومية من قبل وزارة المالية وديوان المراقبة العامة؟