كنتُ طفلة صغيرة حين استمعت إلى صوتها العذب عبر الإذاعة، وهي تغني أغنياتها الطربية عبر كلمات منتقاة بعناية كـ"هواك أعاد لي ثقتي بنفسي.. وراب المنى أعماقي.. ونور درب آمالي وأحيا.. موت مشاعري بالأماني.." وهي كلمات الأديب طاهر زمخشري، وألحان محمود جميل ـ رحمهما الله ـ حينها كانت تسلية أمي الاستماع إلى أثير الإذاعة في بيتنا الصغير كل صباح، وكانت تُدندن معها أحيانا وأنا في حجرها، تُمشط شعري ضفيرتين تربطهما بشرائط حمراء، وصوتها عبر الأثير يأتينا قويا من حنجرة امرأة أديبة وليست مجرد فنانة، وكبرتُ وكبر صوتها داخلي منذ تلك اللحظة رغم غيابه سنوات طويلة، وكان السؤال في نفسي: أيأتي يوم أخبرها أنها رائعة!؟ وأني حزنت بسبب غيابها الطويل!.

وحين عملت في الصحافة، بحثتُ عنها كثيرا؛ كي أخبرها: "أنتِ رائعة"، فهي المرأة السعودية الكفيفة، التي نحتت من الكلمة معنى، ومن الحلم إصرارا، ومن الموسيقى طريقا نبيلا، ولكن كانت كل الطرق موصدة أمامي، وكل من أسألهم يجهلون أي وسيلة توصلهم بها، ولم نملك منها سوى صوت نسمعه كلما شعرنا بالحنين للزمن الجميل عبر "اليوتيوب"، ولم أكن أعرف أنها تتابعني من بعيد.. حتى شرفتني بتواصلها معي عبر حسابها الجديد في"تويتر" بعد غياب طويل جدا، تطمئنني عليها، وتشكرني رغم عدم وجود سابق معرفة سوى المعنى والكلمة! لم أصدق أنها هي! ظننته حسابا مزيفا فهو جديد! وكانت اللحظة المدهشة حين فاجأتني بإرسال رقمها، وجاء صوت حنجرتها عذبا رائعا بهيا لم تنل منه السنون، وأعادت لي تلك اللحظة التي كنتُ أبحث فيها عن حجر والدتي وهي تسرح شعري!.

يا الله ما هذا التواضع الأنيق، وهذه الروح الرقيقة، وهذه الثقافة العالية، هي كما بقية الرواد الحقيقيين، ورغم أنها منقطعة وغائبة، لكنها كانت تتابع كل شيء، وحين سمعت صوتها كنتُ أريد أن أقول لها: "أستاذة أنتِ رائعة"، فلم أعلم إلا وأذني تسمع منها تسبقني "كنتِ رائعة يا حليمة".. فما أغرب الأقدار.. كل هذه السنوات الطويلة رغبت في قولها لها، فإذا بأذني تسمعها منها..!

إنها حقا إبتسام لطفي، سيدة الغناء الخليجي، وكوكب الجزيرة العربية أسوة بكوكب الشرق.. أو هكذا سماها أحمد رامي الشاعر المصري صديق أم كلثوم، وقد قال لها مرة، أنت "أم كلثوم الصغيرة"، وكتب لها خصيصا قصيدة "وداع" فيما لحن لها كبار الملحنين أمثال السنباطي والموجي وغازي علي وطلال مداح الذي اكتشف صوتها وسماها إبتسام؛ مبررا ذلك "ربما يتبسم لك الزمن وتصبحين نجمة تتألق في سماء الفن"..

وها هي تعود إلينا من جديد بعد انقطاع طويل جدا.. كي تعيدنا إلى الزمن الجميل الذي بتنا نفتقده كثيرا في حياتنا، وتعيد إلى تراثنا الغنائي الحياة وقد بات يضيع من أيدينا، بعد ضياع الكلمة الحلوة واللحن الراقي والحس المرهف والحنجرة المثقفة التي ما عدنا نعرف مكانها إلا في قلة قليلة عربيا..

لقد عادت إبتسام لطفي من زمن العمالقة؛ كي تخبرنا أن الفن الأصيل هو ما يبقى وأن الزبد يذهب جفاء..