"العظماء" فقط من يرحلون في هدوء ويتحول رفاتهم إلى بذور نقية تنبت ببياض التأريخ الإنساني؛ فقبل يومين نعت رابطة الجامعات الإسلامية الأمة العربية والإسلامية، أحد رواد التعليم العربي والإسلامي بالقارة الأفريقية، القامة الشاهقة الدكتور عبدالرحمن بن عمر الماحي رئيس جامعة الملك فيصل بجمهورية تشاد، وأستاذ التاريخ والحضارة، نعت من ظل يعمل ويجاهد طوال حياته نحو تمكين المدرسة الوسطية في الإسلام، ونشر اللغة العربية في جمهورية تشاد والدول الأفريقية ورابطة الجامعات الإسلامية.
رحل صاحب السيرة العطرة والمناصب المتعددة في تشاد، والعضو الهام في المنظمة العالمية للكتاب الأفريقيين والآسيويين، بعدما منحته منظمة "الإيسيسكو" جائزة أفضل إنتاج أدبي عن مدينة نجامينا، وقد خلف لنا في المكتبة العربية والإسلامية العديد من المؤلفات في الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية بخليطٍ فكري أكاديمي وإداري، ستظل منهلا للباحثين ومقصد الدارسين في الحضارة والوسطية والحوار والأدب.. مع بقاء بصمات نقيّة على كل جدار وداخل كل قاعة في جامعة الملك فيصل التي شهدت إسهاماته في تطويرها والارتقاء بها لتبقي على دورها الريادي في القارة الأفريقية الذي رسمه لها، باعتبارها جامعة إسلامية عربية أفريقية تُخرِج أجيالا من الدعاة والعلماء المسلمين الوسطيين الأكفاء، وتوفر لهم بيئة إسلامية وأكاديمية تساعدهم على البحث والتحصيل.
نجمه وحضوره سبقاه في كل مكان يجوبه أو يقوده أو يخطه يراعه، وبصماته حاضرة في كل الزوايا التي مر بها، وتعالوا معي هنا لنقف على زاوية (واحدة) فقط من دراسات الماحي -رحمه الله- والتي آمل أن يضعها "حوارنا الوطني" كخارطة طريق له، ومنهجاً يضاف إلى مقرراتنا الدراسية.. كانت دراسته عن "الحوار في ضوء المبادئ الأساسية للعلاقات البشرية" شرح فيها أسس الحوار الناجح وأورد سبعة أسس للحوار هي: موضوع الحوار والهدف منه، معرفة المتحاورين للموضوع وأبعاده وآفاقه، والجو المناسب والهادئ للحوار، والأسلوب العلمي للحوار، والاحترام المتبادل بين الأطراف المتحاورين، والثقة بشخصية المحاور الذي يدير الحوار أو الشخصيات المتحاورة، ونتيجة الحوار وما يترتب عليها من أعمال بشرية في معترك الحياة.
وحدد الدكتور عبدالرحمن الماحي عشرة مبادئ "عالميّة" ينطلق منها الحوار.. هي التوحيد ووحدة الأصل البشري وتعاونه وكرامة الإنسان، وربطه بأنه مبدأ مشترك للدعوة والحوار بين المسلمين وغيرهم من البشر، والتسامح بين الأفراد والجماعات في غير استسلام للشر، ودفع العداوة بالتي هي أحسن، والحرية والمساحة الواسعة التي توفر جواً خالياً من الخوف، والفضيلة وهي من القيم العظيمة التي يجب أن تتحلى بها النفس البشرية في الحياة الاجتماعية حيث الفقه والحلم والتواضع والتسامح..، و"العدل" وهو غاية كل البشر والأساس الذي قام عليه الكون حيث إن الانحراف عنه يغرس الأحقاد ويثير أعاصير الكيد والانتقام.. والوفاء بالعهد وهو مبدأ عام فرضه الله على البشرية، و"المودة" وهذه أمر الله بها أن توصل بين البشر حيث إن الإخوة الإنسانية ثابتة يجب وصلها ولا يصح قطعها.
رحل صاحب المحطات المتنوعة في هدوء وفي زمن لا يعرف إلا الصخب والشغب بعدما أضاف وأضفى لكل منها بريقاً خاصاً، فجمع السجايا والسمات الشخصية وسعة الأفق نحو الوسطية والسلام وعشق "العربية" والحفاظ عليها، ورسالة خالدة لمن بعده في أفريقيا خاصة والدول الإسلامية والعربية جمعاء.
رحل رائد علم وحضارة وسلام، ولم يُبقي لنا سوى أن الأوطان والتاريخ لا يحفظان إلا أسماء عظيمة فقط ليكتباها، لتحفظها الأجيال والأمم، لأن مدن الخصوبة والحب تبقى حيّة خالدة، أما التقوقع فيبقى ديدن الأرض البوار التي لا تاريخ لها، والضعيف بها لا يخلده سوى الضعفاء!