أناشدكم ـ بكل محبة ـ أن تتفهموا حالة الوهن التي باتت تُحاصر "صاحبكم"، فقرر تجاوز اللغو السياسي والعبث المتفشي كالأوبئة، وتلك المعارك الدامية التي تلاحقه في حلّه وترحاله، وقرر تذكر نصائح جدته التي ظلت ترددها حتى لقيت ربها: إن كل شيء على ما يرام.
والحق أعترف أن هذه النصيحة ليست جديدة، بل حدثت منذ ألف عام تقريبا، وحتى لا نبالغ منذ 985 سنة، و"صاحبكم" يقنع نفسه بأن كل شيء على ما يرام.. الوطن والأهل.. المال والبنين.. العمل والأصدقاء.. الصحة والمستقبل، ورغم ألاّ شيء يوحي بذلك، لكنه دخل هذا الشعور وأغلق على نفسه بإحكام.
في قرارة نفسه يُدرك تماما أن الوطن أصبح مثل طاولة قمار، والأهل والأحبة مثقلون بالأعباء لدرجة قطع صلة الرحم، والمال والبنون نعمتان لا ناقة له فيهما ولا بعير، وأن العمل مُزعج ويستنزف أعصابه، والصحة معتلة، والمستقبل حالك بأفضل الاحتمالات، وأن كيانه يعج بالشروخ حتى النخاع، ومع كل ذلك أدار ظهره للحياة، ووقف أمام مرآة عتيقة، ورثتها أمه عن جدتها، قائلا بثقة: كل شيء على ما يرام.
ومنذ قرون يدرك "صاحبكم" ألا جدوى من التفكير ولا قيمة للجدل السياسي المستعر، لذلك همس لنفسه ذات صباح: الرحيل هو الحل الأمثل، واللامبالاة هي الدواء الحقيقي، والنوم هو المنقذ الوحيد من هذا العبث.
مرت قرون وما زال كل شيء على ما يرام، ومن فرط (المايورامات) التي أدمنها "صاحبكم" قرر البحث عن حورية تضع (مايوراماتها) على (مايوراماته) لتصبح الحياة لؤلؤة مغمسة بالبهجة، كأنها كتلة ثلج نقية، وفي صباح ذاك القرار استيقظ "صاحبكم" مبكرا واغتسل مرتين متتاليتين وشرب قهوته مستمتعا بأنغام موتسارت، وقرأ قصيدة عن المحبة لابن الفارض، ومضى بأحسن حالاته إلى حيث لا يدري.
ولساعات طويلة راح "صاحبكم" يبحث عن ضالته دون جدوى وكأن المدينة لم يعد فيها سوى الرجال.. رجال تغص بهم الشوارع والميادين والأسواق، بعضهم بأكتاف عريضة وأخرى ضيقة، وينتشرون بكل مكان حتى بدت المدينة كقصر مهجور موحش، يتردد أن الجن يسكنه.
لكن أين نساء الإمبراطورية؟.. صرخ "صاحبكم" حتى تمزقت أحباله الصوتية:
ـ من أنت لتسأل عنهن؟
ـ أنا "صاحبكم" أسكن في الحي المجاور فضلا عن كوني رجلا من فصيلتكم.
ـ وما كلمة السر؟
ـ كل شيء على ما يرام.
ـ إذن أبشرك أنه لم يعد في إمبراطوريتنا نساء نهائيا، فقد قررنا نحن الرجال أصحاب الأكتاف العريضة والضيقة بعد مشاورات عميقة، أن نؤسس إمبراطورية خاصة بنا نحن الرجال، شعارها: "لا نساء بعد اليوم".
لم يصدق "صاحبكم" هذا الجنون ومضى يبحث في كل مكان حتى أدركه النعاس.. لا بد أني أحلم هكذا قال لنفسه لكن النعاس حاصره، وبعد إغفاءة طويلة انتبه واقفا ليشاهد امرأة وحيدة فركض نحوها.
ـ أهلا أيتها الجميلة.. أنا الرجل "صاحبكم" الطيب.
ـ وما معنى كلمة رجل؟
ـ مواطن بإمبراطورية مستقلة شعارها لا نساء بعد اليوم.
ـ لا أفهمك وأجد صعوبة كبيرة في استيعاب لغتك.
ـ هل أنت مرتبطة؟
ـ نعم مرتبطة بغزارة.
ـ أبحث عن حورية تشاركني (مايوراماتي) فهل تساعدينني؟
ـ لا تبحث كثيرا فأنا آخر امرأة في الكون.
لملمت المرأة أغراضها في حقيبة صغيرة وطارت بعيدا جدا، فحاول "صاحبكم" اللحاق بها، وتمنى حينها أن يتحول لصقر خرافي، فكان له ذلك، لكن المشيئة جعلته صقرا بجناحين مكسورين.. عاجزين عن التحليق.
عاد "صاحبكم" من غفوته فركض مسرعا لمنزله، واستلقى على السرير ليحاول استيعاب ما يحدث، وقال بصوته المتحشرج: أدرك أن الوطن أصبح كراقصة سمينة مبتذلة، والأصدقاء خبثاء منافقون، والأهل مهمومون بأعبائهم الثقيلة، والمستقبل باهت، وأعرف أني أعيش في إمبراطورية لا نساء فيها، وهذا هو الأكثر مرارة في الحياة، لكن رغم ذلك كله ما زال كل شيء على ما يرام، صدقوني.. كل شيء على ما يرام.